من يقرأ وثائق «مؤتمر الإنقاذ» الذى انعقد مؤخرا فى دمشق بدعوة من «هيئة تنسيق قوى التغيير الديمقراطى»، وضم عددا من الأحزاب والهيئات القومية واليسارية والكردية، يصعب عليه ألا يصدم للكمية الهائلة من الخلط الذى يمارس على مدى وثائق ليست بالطويلة وخطب قليلة. ولسنا نتجنى على أحد إذا وصفنا ما بين أيدينا من وثائق وخطب تنطوى على كم مدهش من المبادئ والاهداف والشعارات المضخمة سرعان ما تلقى مصرعها أمام نقائضها، ومن المراحل المتداخلة المقولات والمقترحات المطروحة على عواهنها بما فيها من تناقض وتضارب بما يستبعد تصديقها. إلا أننا امام عيّنة مما ساد المعارضات العربية فى مرحلة ما قبل الثورات من فوات فى المفاهيم والرؤى لا يمكن إلا أن يقود إلى مثل البون الشاسع الذى نشهده بين الكلمة والفعل والقول والعمل والهدف ووسائل تحقيقه. ولابد من أن نضيف أنها تقود إلى نمط من التدليس للموقف الفعلى تحت ركام من العموميات والتوريات والشعارات المتوّرمة على سبيل «التكتيك» واستدراج العطف الجماهيرى.
●●●
يطالب المؤتمر المبعوث العربى والأممى بالعمل لعقد مؤتمر دولى حول سوريا تشارك فيه جميع الأطراف المعنية للبحث فى البدء «بمرحلة انتقالية إلى نظام ديمقراطى تعددى». لكنه يدعو فى الوقت نفسه إلى حل داخلى بدعوته أطياف المعارضة فى الداخل والخارج للعمل المشترك فى سبيل تغيير ديمقراطى جذرى ــ يحقق مطالب الشعب فى ثورته (والتشديد على ثورة شعبية) ــ ويحافظ على وحدة سوريا ــ ولا يتم الا «بإرادة السوريين انفسهم وبأيديهم».
ولا يكتفى المؤتمر بالدعوة إلى «التغيير الديموقراطى الجذرى الشامل». أنه يدعو ببساطة إلى «إسقاط النظام بكل رموزه ومرتكزاته» وإلى انتزاع الجيش النظامى من يد السلطة وإعادة هيكلته ليمارس دوره فى استعادة الاراضى المحتلة وحماية أمن سوريا. لست أدرى لماذا تتردد معظم المعارضات عن تسمية الأراضى السورية المحتلة باسمها ــ الجولان ــ ولماذا لا تعلن العزم على «تحريرها» بكل الوسائل، بما فى ذلك العنف الذى تكفله لها كل المواثيق والعهود والمعاهدات الدولية؟! لكنى لن أنفك أسجل هذه الملاحظة.
لا يجب أن يتفاجأ القارئ الساذج بأن كل الدعوات إلى إسقاط الرموز والمرتكزات وانتزاع القرار من السلطات وإعادة الهيكلة للجيوش (لا لأجهزة الأمن؟!)، ليست تستوجب أى إجراء عملى، ولو كان مجرد التمنى على «الرمز الأول» للنظام بأن يتنحى، مثلا.
يبدو أن «الإسقاط» سوف يتم بحوار فى موسكو فى منتصف أكتوبر المقبل ــ أى بعد لا أكثر من ثلاثة أسابيع ــ بين المعارضة وممثلى النظام «ممن لم تلّوث ايديهم بالدماء والفساد». ومع أن الحوار سوف ينعقد «من دون شروط مسبقة»، سيكون من الطرافة بمكان الاطلاع على اللائحة التى سوف تضعها المعارضة للأسماء الملوثة أيديهم بالدماء والفساد من الطاقم الحاكم فى دمشق.
لا يتردد المؤتمر فى تحميل النظام المسئولية عن العنف، واعتباره أن عنف النظام دفع إلى العنف المضاد. بل إنه يؤكد أن الجيش السورى الحر قد «تشكل بشكل عفوى» وبمحض وازع «أخلاقى» دفع أفراده إلى الانشقاق لرفضهم استخدام القوة العسكرية ضد «المناضلين السلميين». وفى ذلك تبرئة واضحة من تهمة «الإرهاب»، التى يسوقها ضده النظام، ومن الادعاء أنه ينفذ «أجندات خارجية». إلا أن المؤتمر لا يلبث أن يطالب «قوى النظام بوقف العنف فورا والتزام المعارضة بذلك فورا، وذلك تحت رقابة عربية ودولية مناسبة». فيساوى بذلك بين عنف النظام، المطلوب اسقاطه بكل رموزه ومرتكزاته، لممارسته العنف ضد «المناضلين السلميين»، وبين عنف يمارسه «الجيش الحرّ» الذى أوكل اليه المؤتمر مهمة الدفاع عن سلمية الثورة.
●●●
منذ وقت مبكر، انقسمت المعارضة السورية بين داخل وخارج حول مسألتين. الأولى تتعلق بما سمّى «التدخل الخارجى» والمعنى به أساسا التدخل العسكرى الخارجى. والطريف أن معارضتى الداخل والخارج، خلا استثناءات قليلة معظمها فردى تستحق التقدير والإعجاب، التقتا على توقع حتمية التدخل العسكرى للولايات المتحدة والحلف الأطلسى. فرحب المجلس الوطنى السورى، فى الخارج، بالتدخل بل دعا إليه جهارا، بينما استنكرته هيئة التنسيق لقوى التغيير الديمقراطى، واعتبرت موقفها هذا بمثابة علامة تفارق اساسية داخل المعارضة. لم يحصل التدخل العسكرى لاعتبارات تستوجبها قراءة دقيقة للاستراتيجية والمصالح الأمريكية، مررنا عليها مرارا من قبل. ولا يزال مثل هذا التدخل مستبعدا فى الأمد المنظور. وهو لو حصل، بهذا الشكل او ذاك، لما برر اطلاقا الزعم بأن التدخل العسكرى موضوع على جدول أعمال القوى الغربية منذ البداية.
أما المسألة الخلافية الثانية فدارت مدى ما سمى بـ«عسكرة الثورة» فى مقابل «سلميتها». وهذا الخلاف لم يبق منه ما يستحق الذكر ما دامت هيئة التنسيق والقوى المشاركة معها فى «مؤتمر الإنقاذ» أقرت بأن العنف الذى مارسه النظام قد استدعى العنف المضاد. نقول ذلك مع التحفّظ لأن مواقف الهيئة لا تزال مضطربة من حيث الموقف من العسكرة، فساعة تجدها تطورا أملاه «الحل الأمنى» وتارة تحلم بالعودة إلى «السلمية» كأن العسكرة كانت مجرد إرادة قادر وليست وجوبا واجبا.
بينما عدا ذلك، بات لروسيا، ومعها الصين، معارضة. يمكننا أن نسمّيها المعارضة الرقم اثنين، على اعتبار ان المعارضة الرقم واحد قد استهلكت فى الانتخابات النيابية وفى تشكيل وزارة «الاتحاد الوطنى». ومعلوم أن النظام أجاز عقد المؤتمر بطلب من روسيا والصين، والمؤتمر بدوره ردّ أول تحية بأحسن منها عندما أزال الحرم عن التعاطى مع إيران الذى وضعته سائر اطياف المعارضة، فدعا السفير الإيرانى إلى حضور مداولاته. وبالرغم من تعهد الحكومتين الروسية والصينية بحماية المؤتمر وأمن مندوبيه، لم تقاوم مخابرات سلاح الجو إغراء أخذ مؤونة من ثلاث رهائن من اعضاء هيئة التنسيق، عند خروجهم من المطار ــ عائدين من أين؟ من بيجين! ــ بينهم عبدالعزيز الخيّر، مسئول العلاقات الخارجية فى الهيئة وأحد المنظمين الرئيسيين للمؤتمر. هكذا على سبيل الاحتياط.
●●●
لنعد إلى الراهن ولنقارن بين اللائحة الطويلة من المشاريع والمقترحات والاهداف والمراحل الانتقالية التى بسطها «مؤتمر الانقاذ» وبين تقرير الأخضر الإبراهيمى عن آخر لقاء له مع الرئيس الأسد. قال المبعوث العربى والاممى فى خطابه أمام مجلس الأمن وفى احاديثه الصحفية اللاحقة، وهو المعروف بأنه لا يهذر فى الكلام، ان الرئيس الأسد يريد «عودة الامور إلى الوراء» بينما المطلوب التقدم إلى امام. فما رأى مؤتمرى الانقاذ، دعاة «اسقاط النظام والتغيير الجذرى الديمقراطى الشامل» فى هذه المساهمة الايجابية نحو الحوار الوطنى؟. ويقول المبعوث العربى والأممى ان الرئيس يعتبر انه يطارد مؤامرة خارجية ادواتها الداخلية «المجموعات الارهابية المسلّحة» بينما اكد المؤتمر ان الرئيس، الرمز الاول للنظام المطلوب اسقاطه، مسئول عن مبادرة اللجوء إلى العنف، فاستدعى العنف المضاد.
قلنا إنه بات لروسيا معارضة، لنسمّها «حليفة». لكن السؤال: هل النظام السورى، وقد انكر رمزه الاول انه هاجم السعودية وقطر فى حديث شهد عليه تسعة صحفيين مصريين، هل يقف حقا مع الحليف الروسى والحل الروسى؟