ترددت فى تحميل فشل باراك أوباما المسئولية الكاملة عن فشله فى تحقيق إنجازات ذات قيمة فى مجال السياسة الخارجية الأمريكية. ترددت لسببين أعتقد أنهما خارجان عن إرادة الرئيس الأمريكى، أيا كانت نواياه وخططه التى كشف عنها خلال حملة الانتخابات فى عام 2008. السبب الأول أنه فى ذلك العام كانت أمريكا، ومعها أو بعدها أوروبا، غارقتين فى أزمة مالية هزت الاقتصاد العالمى وتسببت فى كساد عظيم ما زالت البشرية تعانى ويلاته.
كان الشغل الشاغل للمراقبين، أمريكيين وأجانب، متابعة أوباما وهو يحاول السير متوازنا بين مشكلات الداخل ومشكلات الخارج. لم يكن ممكنا أو متصورا أن يدخل أوباما فى مجازفات خارجية، أو يحدث تغييرا مشهودا فى السياسة الخارجية فى وقت كان فشله فى حل مشكلات عجز الموازنة والتستر على فضائح حى المصارف والرهونات والقروض واضحا أمام كافة صانعى القرار فى العالم الخارجى.
●●●
السبب الثانى الذى جعلنى أتردد فى تحميل أوباما مسئولية فشل السياسات الخارجية، هو أنه وصل إلى البيت الأبيض فى وقت شديد الاضطراب فى العالم بأسره. نذكر أن السادة الرؤساء الذين تولوا مسئولية الحكم فى أمريكا على امتداد المائة عام السابقة، وصلوا إلى البيت الأبيض بعد تلقين مكثف من مستشاريهم، وبعض هؤلاء المستشارين كانوا من أفضل الأساتذة وأكفأ الخبراء. كان هدف التلقين وضع المرشحين لمنصب الرئاسة فى صورة وضع عالمى محدد المعالم واضح القسمات. ترومان تسلَّم فى مرحلة كان العالم ينتقل من قيادة متعددة الأطراف هزمتها الحرب العالمية إلى قيادة ثنائية طرفاها هما الدولتان اللتان خرجتا من الحرب باحتياطى قوة عسكرية هائلة. كذلك كان الحال مع جون كيندى الذى جاء إلى الرئاسة مدركا تمام الادراك أنه مسئول عن إدارة حرب باردة ناشبة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى ومهمته تفادى ان تتحول إلى حرب عالمية ثالثة. وجاء رونالد ريجان محمولا على أكتاف جبهة عريضة من مفكرى اليمين المتشدد، أغلبهم مؤمن بأن فرصة اليمين العالمى للهيمنة قد حانت، وجدوا مارجريت تاتشر زعيمة متعطشة لاستعادة هيمنة الغرب والتمهيد لاعلان انتصار الرأسمالية، أو لعلها استخدمتهم إلى حدود قصوى، وكانت نتيجة مساعى هؤلاء المحافظين الجدد إغراق الاتحاد السوفييتى فى وهم حرب فضاء استهلكت موارده واثارت الانقسامات فى القيادة السوفييتية فانكشف ضعف النظام.
وبعد ريجان كانت مهمة رؤساء أمريكا إرساء قواعد نظام القطب الواحد على أساس حتمية قيامه فى أعقاب سقوط الشيوعية والاتحاد السوفييتى، وعندما لم يتحقق هذا الأمل تحت ضغط الانحسار المتتالى للميزة النسبية لأمريكا فى النظام الاقتصادى العالمى، دخلت الولايات المتحدة مرحلة التعرف على عالم جديد غير العالم الذى تعودت عليه، فلا الأحلاف الثابتة التى نفذت بها واشنطن بعض غزواتها وسياساتها الخارجية بقيت على حالها، ولا التوازنات الإقليمية استمرت تخدم سياسات الهيمنة الأمريكية ولا «الدولة» كلاعب فى الساحة الدولية حافظت على مكانتها وهيبتها فى مواجهة لاعبين جدد جاءوا من خارج «النظام الدولى» ليقتحموا بالقوة وبدرجات متفاوتة من العنف حدود ما كان يعرف بقرن «السلم الأمريكى».
●●●
هنا، فى هذه المرحلة، ظهر فى الساحة السياسية الأمريكية باراك أوباما. كانت نواياه كثيرة ومعلنة فى كتب ومقالات وخطب وتضمنتها شعارات حملته الانتخابية. كانت خطته فى الشرق الأوسط واضحة وكذلك خطته لعلاقات جديدة مع المسلمين فى جميع أنحاء العالم، وأيضا خطته إزاء القارة الجنوبية فى نصف الكرة الغربى.
نستطيع الآن، وإن اعترفنا بأن سببين أساسيين لم يكونا فى الحسبان عطلا تنفيذ هذه الخطط والنوايا، أن نقول إن كل الشواهد تشير إلى أن الرئيس الأمريكى الذى يرشح نفسه لولاية ثانية فشل فى تحقيق إنجاز يذكر فى السياسة الخارجية خلال ولايته الأولى.
فشلت إدارة أوباما فى الشرق الأوسط، ابتداء من التعامل مع أزمة النشاط النووى فى إيران إلى تحريك التسوية فى الصراع الفلسطينى الإسرائيلى، مع التحفظ على أنها ربما نجحت فى تأجيل قرار إسرائيل شن حرب ضد إيران، نعلم مسبقا أنها حرب إن نشبت ستصيب بالدمار مواقع ومصالح للولايات المتحدة فى المنطقة وخارجها. فشلت فى ضمان استقرار «السلام المصرى الإسرائيلى» وقد تضطر الإدارة القادمة لدفع تكلفة سياسية وربما عسكرية باهظة لاستعادة هذا الاستقرار.
●●●
من ناحية أخرى، كشفت أحداث العامين الأخيرين عن أن إدارة أوباما لم تفهم جيدا «عالم الإسلام» وأطيافه المتباينة وأحيانا متناقضة ومتصادمة. تصرفت حسب قناعات تراكمت فى المكتبات وسجلات أجهزة صنع القرار خلال مرحلة «الاستشراق الجديد»، وبعضها قناعات لم يثبت أصالتها أو دقتها. سمعت فريقا يشير إلى الثورات العربية كدليل على نجاح إدارة أوباما والتخطيط السياسى الأمريكى، ولم يقدم هذا الفريق الدليل المقنع بأن هذه الثورات، بحالتها الراهنة ومستقبلها المنظور، يمكن أن تخدم مصلحة أمريكية متوسطة الأجل. جاءت حوادث السفارات الأمريكية والمظاهرات «الإسلامية» ضد أمريكا بسب الفيلم إياه، تؤكد أن «الثورات» لم تفِ بأى غرض أمريكى إن كان حقا أن أمريكا سعت لنشوبها أو شجعتها.
لا الأوضاع الراهنة فى سيناء تخدم أهداف أمريكا، ولا يخدمها عودة رماد الثورة إلى الاشتعال فى أنحاء متعددة من العالم العربى، ولا خروج جيل جديد من الشباب، لا يمكن اتهامه بما اتهم به بعض قيادات ثورات الربيع، ولا ردود الفعل لعودة القوات الخاصة الأمريكية إلى النزول بدون استئذان فى أراضى أكثر من دولة عربية، ولا الرفض المتواصل لسياسات السوق المتوحشة وجر مصر وغيرها إلى متاهات الفشل الاقتصادى والفوضى الاجتماعية، ولا تعمد إذلال النخب الإسلامية الحاكمة فى بلد أو آخر رغم أنها وصلت بأساليب ديمقراطية ودعم معنوى أمريكى مشهود.
●●●
فريق يقول إن نتيجة الفرز الاجتماعى والفكرى الذى أسفرت عنه الثورات، بخاصة الثورة المصرية، تدل بوضوح على أن المجتمعات العربية تستعد لثورة أعمق وأشمل. فالفشل الذى أصاب خطط أمريكا وأهدافها الخاصة فى الشرق الأوسط، يصيب الآن آمال كثيرين فى المنطقة تصوروا للحظة أن «الحقيقة» الأبدية على وشك أن تهيمن، و«الحق» فى المستقبل على وشك أن يكتمل.