يشكك البعض فى نية المجلس العسكرى عقد الانتخابات وتسليم السلطة، ويرون فيما تشهده البلاد منذ السبت الماضى بروفة لعنف أفظع ستشهده لجان الاقتراع يوم التصويت، عنف سيتخذه المجلس العسكرى ذريعة لتأجيل الانتخابات أو إلغائها كلية، عنف تم استدراج الثوار إليه فى التحرير ليتم بعد ذلك الإجهاز عليهم وعلى ثورتهم تماما.
والواقع غير ذلك فى رأينا، فالمجلس العسكرى من مصلحته عقد الانتخابات وفى أقرب فرصة، وهى مصلحة يعيها تماما القائمون على المجلس من نخبة المؤسسة العسكرية التى حكمت مصر دون انقطاع منذ ١٩٥٢. هذه النخبة حكمت البلاد من خلال رؤساء جمهورية متعاقبين أتى جميعهم من الجيش، وإن اختاروا خلع زيهم العسكرى والحكم بالبدلة المدنى، مستعينون فى ذلك بالحزب الواحد والبرلمان الخانع والشرطة المتواطئة فى حماية النظام.
ولمؤسستنا العسكرية مصالح اقتصادية جمة تكونت خلال العقود الستة الماضية نتيجة حكمها للبلاد، وهى مصالح إن تضاربت التقارير فى تقديرها، إلا أن الخبراء يجمعون على واقع تغلغلها فى شتى المجالات الصناعية والتجارية، مصالح اعتدنا ظهورها فى شكل مقتضب بالبند رقم 1 عند اعتماد مجلس الشعب ــ أو بالأحرى بصمة على بياض ــ لميزانية الدولة كل عام.
الخطر على مصر اليوم إذن لا يتمثل فى طمع العسكر فى الاستمرار فى الحكم كما يخشى البعض، لأن المؤسسة العسكرية وببساطة كانت بالفعل تحكم مصر وفق منظومة شبه مستقرة حتى قيام ثورة ٢٥ يناير، وإنما الخطر اليوم يكمن فى كيفية التفاوض مع المؤسسة العسكرية ونخبتها على عودتهم إلى ثكناتهم التى تركوها منذ ٦٠ سنة، وكيف تكون عودتهم هذه، وبأى شروط وضمانات تحفظ للمؤسسة مصالحها الاقتصادية أساسا؟
حاول المجلس العسكرى حل هذه المعضلة من خلال المادتين ٩ و١٠ من وثيقة السلمى، فاكتشف أن نخبتنا السياسية التى يتفاوض معها غير قادرة على الدخول شريكة فى مثل هذا الاتفاق، سواء لتشرذمها او تنافسها، فرجالها يعطون من الوعود فى الغرف المغلقة ما ينكرونه بعد ذلك فى وسائل الإعلام، ويتنصلون ويتحفظون على بنود الوثيقة بما يتنافى والغرض منها بعد أن سبق ووعد بعضهم بتأييدها، الخ.
لم يبق للمجلس اليوم سوى خيارين للخروج من هذه الأزمة، الأول هو الدخول فى انتخابات، يعيبها ما يعيبها، ستثمر فى النهاية عن مجلس شعب يسهل الضغط على أعضائه لقبول ما فشلت القوى السياسية فى الاتفاق عليه من وثيقة السلمى، مجلس شعب يتمتع أعضاؤه بمشروعية الانتخاب التى تفتقرها جميع القوى السياسية اليوم أصلا.
ومن الضرورى الإسراع بعقد الانتخابات إذا كان لمجلس الشعب أن يلعب الدور الذى ترجوه المؤسسة العسكرية منه، فميزانية الجيش حسبما نعلم خارج الموازنة العامة لحكومة شرف المستقيلة، والجيش حاليا يقوم بصرف نفقاته من أموال المعونة الأمريكية السنوية، مدعومة بودائع الجيش الخاصة من أموال حصلت عليها المؤسسة العسكرية فى أعقاب حرب الخليج الأولى، فضلا عما تشير اليه التقارير من ريع الأنشطة الاقتصادية الأخرى لما يملكه الجيش من أصول.
هذا الوضع لا يمكن ان يستمر دون نهاية قريبة، خاصة والوطن اليوم يبدو على أعتاب أزمة مالية طاحنة، فالمجلس العسكرى فى جمعه لسلطات رئيس الجمهورية ومجلس الشعب لا يملك حق التصديق على ميزانيته بنفسه، وفقا على الأقل لأبسط مبادئ المنطق الدستورى السليم، كذلك لا يمكن للمجلس الاستمرار فى الاقتراض من المؤسسات الدولية أو الدخول فى ديون جديدة تمنع الاقتصاد من الانهيار دون أن يصحب ذلك التزام المجلس صراحة بنية نقل السلطة إلى الحكم المدنى.. لابد إذن من عقد الانتخابات، ولمصلحة المجلس العسكرى قبل كل شىء.
أما الخيار الثانى أمام المجلس فهو ما لوح به المشير طنطاوى من عقد استفتاء على استمراره فى حكم البلاد لفترة انتقالية قد تطول حسب الظروف، ومن المنطقى أن يشمل هذا الاستفتاء أيضا أخذ رأى الشعب فى المادتين ٩ و١٠ من وثيقة السلمى، وهو حل إن كان يعضده رجاحة تصويت أغلبية الناخبين بالموافقة فى الاستفتاء، إلا أنه يفتح الباب أمام مشاكل أعظم، فلا صندوق النقد ولا البنك الدولى سيعطون مصر ما تبغى من قروض حال استمرار المجلس العسكرى فى الحكم وتنصله من عقد انتخابات برلمانية ورئاسية (حتى لو وافق الشعب على ذلك فى استفتاء نزيه على نحو ما لوح به المشير)، إذ لا تملك تلك المؤسستين حق تمويل أنظمة الحكم العسكرية، ناهيك عما يعرضه هذا الحل أيضا من مخاطر تهدد استمرار المعونة الأمريكية للجيش إذا ظل فى الحكم دون انتخابات، فلا الكونجرس سيوافق على المعونة، ولا وزيرة الخارجية هيلارى كلينتون ستملك الدفاع عنها.
إذا كان هذا الرأى صائبا، وإذا كان من مصلحة المجلس العسكرى عقد الانتخابات فعلا، فعلينا التساؤل: لماذا سمح المجلس بانزلاق البلاد فى الأحداث الدامية التى شهدناها منذ فجر السبت الماضى، التى تصب باتجاه تأجيل الانتخابات أو إلغائها للدواعى الأمنية؟
لست من هواة نظريات المؤامرة ولكنى أجد نفسى اليوم مضطرا لاستخدام مفرداتها، فهناك «أصابع خفية» تعبث بهذا البلد ولا تريد لثورته النجاح، أولها يتمثل فى مراكز القوى فى وزارة الداخلية التى ترتبط طبيعتها ومصالحها مع طبيعة ومصالح أى ثورة مضادة. إن وزارة الداخلية بدت خلال الأيام الماضية وكأنها قد خرجت عن طوع وزيرها العيسوى وتنفيذ أوامره عليها، بل وأيضا خرجت عن سلطان المجلس العسكرى نفسه، الذى لا يبدو له حيالها من قوة، فضباط الشرطة يتصرفون وكأنهم فى حالة عصيان صريح لأوامر الجيش بضبط النفس وعدم قتل المتظاهرين، وإلا كيف لنا أن نفسر كل هذا العنف من الداخلية بينما يدعى المجلس العسكرى أنه أمرها بأن تتوقف عن هذه الأفعال الدموية (؟)
أما ثانى الأصابع الخفية المستفيدة من إلغاء الانتخابات فهى أصابع عربية مع الأسف، ممن يتصيدون فى اضمحلال اقتصاد الوطن فرصة إقراض مصر من الديون، آملين من ذلك أن تُكسر شوكة ثورتنا وندخل حيز الهيمنة الرجعية لمجلس التعاون الخليجى، كقطر التى نسمع أنها تولت دفع مرتبات الحكومة المصرية لشهرى سبتمبر وأكتوبر، والسعودية التى يبدو أنها ستتولى ذات المهمة للشهرين التاليين، وكلتا الدولتين على أتم استعداد لإقراض المجلس العسكرى ما تحتاجه البلاد لتسيير أمورها حال رفض المؤسسات الدولية لذلك إذا استمر الحكم العسكرى دون انتخابات. هذه القروض ليست من إخوة عرب يتمنون نجاح ثورتنا أو دخول مصر تجربة ديمقراطية حقيقية، وإنما هى قروض من أنظمة قمعية لا تريد لثورتنا النصر ولا تريد لمصر أن تصبح نموذجا عربيا ينظر إليه مواطنوها ويقيسون حالهم عليه.
ما العمل إذن؟
علينا أن نتذكر أن الثورات إنما تأتى على «أمواج» متتابعة، وأن الموجة الأولى لثورتنا انتهت بخلع مبارك عن الحكم فى ١١ فبراير الماضى دون أن يستتبع ذلك أى سقوط حقيقى للنظام. نحن على ما يبدو على أعتاب الموجة الثانية لثورتنا، وإن صح هذا التوصيف ستكون هذه الموجة الثانية أهم من الأولى، كما تدل أعداد المتظاهرين التى تتزايد يوما بعد يوم، وتشهد على ذلك أيضا دماء الشهداء الذين سقطوا ضحايا أسوأ عنف رأيناه منذ سقوط الشرطة فى ٢٨ فبراير.
يجب علينا، بحق، حتى نستكمل ثورتنا، أن نتحدث صراحة عن مصلحة المجلس العسكرى فى عقد الانتخابات، لا تأجيلها، ومن ثم ربط الانتخابات بالحصول على مكاسب تحسب للثورة، لا عليها. أتمنى لو توحدت الصفوف حول مقاطعة الانتخابات ما لم يسبقها قرارات من المجلس العسكرى تحقق الحد الأدنى من مكاسب للثورة. ولتبدأ بوقف المحاكمات العسكرية للمدنيين وإعادة محاكمة كل من صدر عليهم أحكام من القضاء العسكرى أمام قاضيهم الطبيعى، وتطول الداخلية بخطة إصلاح هيكلى صادقة النوايا وجذرية فى آن، وتنال أيضا من جهاز الإعلام الحكومى فى الإذاعة والتليفزيون والصحافة بإلغاء منصب وزير الإعلام ونقل سلطاته إلى مجلس قومى يثق الثوار فى نزاهة أعضائه، وتكون آخر وليس أخيرا بتفعيل الحكم المحلى وتحديد ميعاد لانتخاباته، حتى يكون لنا من يمثلنا فى مجالسنا المحلية إذا ما تحول مجلس الشعب المزمع انتخابه إلى مضغة سهلة فى يد المؤسسة العسكرية.
بصراحة شديدة، إذا كان المجلس العسكرى يريد الانتخابات لتمرير المادتين ٩ و١٠ من وثيقة السلمى، فليكن له هذا، ولكن يجب أن يكون للثورة موقف واضح ومكاسب صريحة فى المقابل، وإلا فالواجب على كل حر هو السعى والعمل فى سبيل المقاطعة الجماعية للانتخابات.
shalakany@aucegypt.edu