هل كان القانون فى إجازة؟ 1954ـــ 1970 - عمرو الشلقاني - بوابة الشروق
الأربعاء 25 ديسمبر 2024 10:35 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

هل كان القانون فى إجازة؟ 1954ـــ 1970

نشر فى : الأربعاء 24 أكتوبر 2012 - 9:05 ص | آخر تحديث : الأربعاء 24 أكتوبر 2012 - 9:05 ص

أى حرية تلك التى تنادى بها الثورة، إن هى قامت للعدالة الاجتماعية، فسمحت أول عهدها برجوع رأس المال لحلبة السياسة؟ فى شكل أحزاب وانتخابات وشراء أصوات بالسكر والزيت وخلافه؟

 

وأى ثورة تلك التى تعيد إنتاج شبكة المصالح الاقتصادية الضاربة فى البلد بالفساد قبل قيامها، فتقنن باسم الديمقراطية لإرادة شعب زائفة؟ حتى ولو كان صندوق الاقتراع نظيفا؟

 

وكيف لشعب فقير أن يملك «حرية التصويت» أصلا، بينما لا يملك حرية «لقمة العيش» من الأساس؟

 

كانت تلك معضلة «نظام يوليو» مع سيادة القانون فى فترته الناصرية، وهى معضلة صادقة الهواجس فى منطقها الثورى الصريح، لكنها كارثية النتائج فى الحكم المدنى السليم، لذا كانت نهايتها الحتمية «مذبحة القضاء»سنة 1969.

 

يمكن تقسيم تطور العلاقة بين القانون والأمن فى «نظام يوليو» إلى مرحلتين تاريخيتين، الأولى كانت فى الفترة ما بين تصفية آثار أزمة مارس سنة 1954 وحتى وفاة الرئيس جمال عبدالناصر سنة 1970، أما المرحلة الثانية فامتدت من تولى السادات حكم البلاد وحتى أزمة نادى القضاة مع حكم مبارك سنة 2005.

 

أما المرحلة الأولى، والتى نتناولها بالتفصيل هنا، فقد ذاع الحديث عن ما تخللها من اجتراء غير مسبوق على ثوابت الحكم المدنى السليم، من سيادة القانون والفصل بين السلطات مثلا، أو من عصف بحقوق المواطنين وحرياتهم، سواء فى الرأى وحرمة المسكن بالاعتقالات السياسية، أو فى حرية الملكية الخاصة بالتأميم والحراسات وخلافه.

 

وقد أفرزت تلك السنوات مصطلحاتها الخاصة، الدالة فى التعبير عن ذعر المواطنين من سلطة الحاكم، القادر عن طريق «زوار الفجر» على اعتقالهم «وراء الشمس» مثلا، وعن طريق زبانية جدد يرتجف البدن مع ذكر أسمائهم، مثل «سامى شرف» أو «شمس بدران» أو غيرهم من القادرين على التنكيل بالمواطنين دون حسيب من قانون أو قضاء.

 

لا عجب والأمر كذلك أن يظل تعبير من قبيل «القانون فى إجازة» أحد أبرز ما يستخدم فى تقييم سنوات الحكم الناصرى حتى اليوم، وهو تعبير إن صح فى مجازه البلاغى العام، إلا أنه يتسم فى رأينا أيضا بقدر غير قليل من التهويل والتسطيح.

 

ونرى على العكس صحة رأى المستشار أحمد مكى بأن حكام مصر الجدد من نخبة المؤسسة العسكرية فكروا أولا فى التدخل بشكل سافر مع الجهاز القضائى، ثم عدلوا عن هذه الفكرة، مفضلين «ترك القضاء وشأنه وترك القضاة وشأنهم».

 

فكان الاعتماد بالأساس خلال الفترة الناصرية على تشكيل المحاكم الاستثنائية، للالتفاف حول استقلال القضاء دون الصدام المباشر معه، وذلك كلما شاء النظام ضمان ما يصدر عن القضاء فى محاكمات بعينها.

 

ولنترك الحديث لعبدالناصر هنا، الذى وقبل وفاته بقليل سنة 1970 ذهب قائلا:

 

«حقيقة إحنا لم نتدخل فى القضاء منذ سنة 1952 حتى الآن! وكانت عندنا قاعدة إن إحنا إذا تدخلنا فى القضاء وحاولنا نقول للقضاة احكم بكذا، وده أرقيه وده أعملك، أو أقرب ده أو أبعد ده، أبقى هدمت عمل أساسى للبلد

 

«واستقر الرأى على أنه لو كان فيه قضية سياسية بنعمل إحنا قضية سياسية، ونعمل إحنا أنفسنا قضاة، بدأنا هذا الموضوع بمحكمة الشعب، وكان أعضاء مجلس قيادة الثورة هم اللى بيحاكموا.

 

«وكان ده بيدى الناس المعنى بأن القضية سياسية، ولنا فيها رأى فنبعدها عن القضاء، وإحنا اللى حنتحمل المسئولية أو بنعمل ثورة فى هذا الشأن».

 

وبغض النظر عن ما فى عبارات ناصر السابقة من تغافل غير قليل عن تدخل نظام يوليو صراحة فى الشأن القضائى خلال فترة حكمه، وصلت ذروتها مع «مذبحة القضاء» سنة 1969، إلا أننا نرى كلام الرجل سليما فى جوهره المجمل.

 

فالعلاقة بين القانون والأمن فى نظام يوليو الناصرى لا يمكن اختزالها فى مجرد عداء العسكر البديهى لكل ما يمت ومبادئ الحكم المدنى من صلة، وانما اتسمت هذه العلاقة أيضا بقدر لا يستهان به من الجدية الفكرية فى التنظير للعمل الثورى، وبما فتح الباب لأسئلة نقدية هامة فى الممارسة الاشتراكية، من قبيل علاقة الحياة الديمقراطية السليمة مع إعادة توزيع ثروات البلاد على فقرائها مثلا؟

 

أو صلة العمل الحزبى بمصالح رأس المال وما يستتبعه ذلك من تفريغ مبدأ المساواة فى حق الترشح والانتخاب من أى مضمون حقيقى له؟

 

ولهذه الاسئلة جميعا أهمية خاصة فى اللحظات الثورية، وما يستتبعها من شروع فى كتابة دستور جديد للبلاد.

 

●●●

على نمط الحركات الداعية لإشراك أطياف الشعب المختلفة فى كتابة دستور مصر ما بعد ثورة 25 يناير، ظهر كتاب يدعو لنفس الغرض تحت عنوان «نحو دستور الشعب»، قامت على طباعته مصلحة الاستعلامات بوزارة الإرشاد القومى، وظهر فى الأسواق قبل أشهر من هزيمة يونيو 1967.

 

ويفيد الكتاب فى مقدمته بأن العادة فى طرح الدساتير تاريخيا هو منحها كهبة من الملك أو السلطان، ثم تلى ذلك فى الاتجاه الديمقراطى انتخاب جمعية تأسيسية من الشعب تقوم على صياغة الدستور نيابة عنه، وأتت بعد ذلك فكرة استفتاء الشعب على الدستور ليبدى رأيه فى أحكامه.

 

 

أما لدينا فى مصر، فتذهب مقدمة الكتاب إلى أن الرئيس جمال عبدالناصر أبى إلا أن يكون طريقنا للدستور أكثر ديمقراطية، فلم يكتف بالانتخاب والاستفتاء، بل ذهب إلى أبعد من ذلك بدعوة إشراك الشعب على أوسع نطاق فى تحضير مشروع الدستور ومناقشته.

 

فانعقد المؤتمر الوطنى للقوى الشعبية فى يونيو 1962 مشكلا من 1500 عضو منتخب يمثلون فى المقاعد 379 للفلاحين، و300 للعمال، و150 عضوا للرأسمالية الوطنية، و460 للنقابات والموظفين غير المنتمين لها، ومن ضمنهم القطاع النسائى، وأخيرا 210 أعضاء للجامعات وما فى مستواها والطلبة.

 

وقد أقروا فى اجتماعهم هذا الميثاق الوطنى الذى قدمه ناصر للمؤتمر، موضحا معالم الديمقراطية الاشتراكية السليمة، والتى وفق الباب الخامس منه تنص صراحة على أن:

 

«حق التصويت فقد قيمته حين فقد اتصاله المؤكد بالحق فى لقمة العيش. (و) أن حرية التصويت من غير حرية لقمة العيش وضمانها، فقدت كل قيمة فيها وأصبحت خديعة مضللة للشعب».

 

وللتدليل على ذلك يذهب الميثاق إلى أن الانتخاب كان «إجباريا» على الفلاحين فى أرياف مصر، لزم عليهم التصويت لصالح مالك الأرض الإقطاعى، وإلا واجه الفلاح تبعات عصيانه وأولها طرده من الأرض التى يعمل فيها بالكاد لسد جوعه.

 

وانتخابات الحضر كان الدفع فيه بمرشحين مضمونين الولاء لرأس المال، فكان شراء الأصوات، وتزوير الحكومات المتتابعة للانتخابات قبل انقلاب الجيش فى يوليو 1952، بما أصبح معه من المستحيل الحديث عن عملية «الانتخاب» باعتبارها وسيلة صادقة التعبير عن إرادة الشعب الحرة أو تمثيل مصالح الأغلبية الفقيرة منه.

 

وذات المنطق نجده أيضا فى حديث ناصر مع اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطنى فى 25 نوفمبر 1961، حين ذهب إلى القول بالعامية إن:

 

«اللى بتمارس فى بعض البلاد واللى بيقعدوا يطنطنوا بالديمقراطية، الديمقراطية ليست إلا ستارا من أجل حماية الرأسمالية والإقطاع والفساد والاستغلال الاقتصادى بكل معانيه».

 

وكذلك المنطق نجده فى حديث ناصر نفس السنة عن مستقبل الأحزاب السياسية فى مصر، فذهب الرجل إلى أنه عقب انتهاء أزمة مارس 1954 أخذ يفكر فى موضوع تفعيل الحياة الحزبية، وفكرة التصريح بتأسيس حزبين، أحدهما يمثل اليمين والآخر اليسار كما الحال فى بريطانيا أو أمريكا، حزب يحكم وحزب يعارض..

 

ولنترك الحديث لناصر الذى يقول:

 

«وبعدين انا رديت على نفسى قلت إن احنا نسينا أن فيه ثورة سياسية وثورة اجتماعية وإن عملية الحزبين اللى بيتكلموا عليها الشعار اللى فضلوا يركزوا علينا ليس إلا تعبير عن ديكتاتورية رأس المال ليه، لأن الحرية كل الحرية لرأس المال...

 

«ومن الواضح أنه طالما أن الطبقات المستغِلة عندها الحزبية لتستغل الشعب العامل، والشعب العامل أو الطبقة العاملة ليس لها حرية عدم الخضوع لهذا الاستغلال مفيش حرية.

 

«الشعب العامل ليس له الحرية فى عدم الخضوع لحد، لأنه إذا ما خضعش مش حيلاقى ياكل، مش حياخد أجرته، مش حياخد مرتبه. ليس أمامه إلا أن يخضع».

 

المنطق سليم فى رأينا، لا غبار عليه من المنظور النقدى فكريّا، فأى ديمقراطية تلك، من تشكيل أحزاب وإجراء انتخابات، وأى مساواة تلك فى حقوق وواجبات المواطنة، بينما رأس المال هو المسيطر فى النهاية على أمر السياسة، ووفق منظومة قانونية تحمى الملكية الخاصة وتعوق إعادة توزيعها؟

 

نعم، «الشعب العامل ليس له الحرية فى عدم الخضوع لحد، لأنه إذا ما خضعش مش حيلاقى ياكل»، كما قال ناصر وبحق، بكل ما تستدعيه تلك العبارة من دعوة للابتكار الخلاق فى صياغة دستور أوسع تمثيلا لمصالح طبقات الشعب المختلفة، وأكثر عدالة فى توزيع ثروات الوطن بين أهله، حتى يصبح حق التصويت ذا معنى موضوعى وبحق، وليس مجرد شكلية فى ديكور ديمقراطى، تتلاعب به مصالح رأس المال من الخلف، بينما تقوم النخبة القانونية بحمايته من الأمام عن طريق الحجة وراء الأخرى فى المشروعية المدنية الجمهورية السليمة، والفصل بين السلطات، واستقلال القضاء والنائب العام، والأحزاب والانتخابات، وغير ذلك مما يعيق أى ثورة حقيقية عن تحقيق أهدافها.

 

ورغم سلامة هذا المنطق، إلا أن مشكلته فى رأينا كانت وما زالت تكمن فى التطبيق، فهو منطق يحكى لنا التاريخ عن سهولة اختطافه لإضفاء المشروعية على قمع الدولة لمواطنيها فى ظل الأنظمة الشمولية المختلفة، المدعية باسم الديمقراطية الاجتماعية تحقيق ديكتاتوريات الشعب أو طبقاته العاملة.

 

وينطبق ذلك على أقصى يمين الأنظمة الشمولية تاريخيا وحتى أقصى يسارها، من ظهور النازية فى ألمانيا متحلية «بالاشتراكية الوطنية»، إلى ديكتاتوريات أمريكا اللاتينية ذات النكهة الداعية للعدالة الاجتماعية ومن ورائها الشعبوية والشمولية فى الحكم، وحتى الثورة الإسلامية فى إيران، والتى بدأت بذات الزخم الناقد فى العدل الاجتماعى، لينتهى الأمر بعد اندلاع الثورة إلى اختطافها على يد الخومينى فى شكل ولاية الفقيه.

 

وعلى ذات المنوال ذهب نظام يوليو فى مرحلته الأولى بالعهد الناصرى، فلم يسفر النقد الاشتراكى الصادق للفكر القانونى لدينا عن مكاسب مستدامة فى طريق إبداع قوى الشعب العاملة لديمقراطية أوسع تمثيلا لمصالحها، كما ادعى الميثاق، بقدر ما أسفر كل ذلك عن توفير دعامات نظام يوليو القانونية، الضامنة لمصالح القلب الأمنى فيه، وحتى كان الصدام مع نادى القضاة سنة 1969.

 

●●●

 

قام الاتحاد الاشتراكى العربى بفتح باب العضوية فى يناير سنة 1963، فانضم إليه خلال أول ثلاثة أسابيع فقط قرابة الخمس ملايين عضو، ممثلين بذلك رمزيا «اتحاد قوى الشعب العاملة»، وموفرين بذلك عمليا شبكة اتصال للنظام وقلبه الأمنى مع مختلف فئات المجتمع.

 

فالجميع أصبح عضوا فى الاتحاد الاشتراكى، من أول النقابات المهنية والاتحادات العمالية والنسائية والجمعيات التعاونية، إلى الوزراء وأعضاء مجلس الأمة وكبار موظفى الدولة وصغارهم سواء، ومعهم بالطبع أعضاء نقابة المحامين وأساتذة القانون فى الجامعات، جميعهم مدعوون للاشتراك فى صياغة دستور مصر تحت مظلة الحزب الواحد.

 

ولم يتخلف عن هذا الركب سوى القضاة، بحجة تعارض عضويتهم فى الاتحاد الاشتراكى مع مبدأ استقلال السلطة القضائية، والذى يعلى من حيدة القاضى السياسية على المنصة، ويلزم معه عدم انتماء القضاة لأى تنظيم حزبى قد يؤثر على أحكامهم.

 

على أن ذلك لم يمنع تنظيم الاتحاد الاشتراكى السرى الذى أنشأه ناصر فى يونيو 1963، بما أصبح يعرف بـ «التنظيم الطليعى»، من التغلغل فى الجهاز القضائى أيضا تحت عناية السيد محمد أبو نصير، أمين تنظيم القانونيين.

 

وهكذا تم تجنيد العناصر الموالية للنظام وكتابة التقارير عن تلك المناوئة له بين أعضاء النيابة والقضاء، ممن ظهرت أسماؤهم بعد ذلك فى محاكمات أمن الدولة المعروفة بقضية «مراكز القوى»، وفق اعترافات سامى شرف وشعراوى جمعة، اللذين شكلا بدورهما تنظيمات سرية بين صفوف ضباط الشرطة والقوات المسلحة.

 

وهكذا باتت الأمور معدة لتسلسل وقائع ما أصبح يعرف باسم «مذبحة القضاة»، فكانت مقالات أستاذ القانون الدكتور جمال العطيفى المنادية بالشرعية الاشتراكية والقضاء الشعبى، والتى ظهر من بعدها مشروع الحكومة فى تعديل التقنين المدنى بجعل مبادئ الاشتراكية مصدرا رسميا للقانون.

 

ثم ظهرت سلسلة مقالات السيد على صبرى، الأمين العام للاتحاد الاشتراكى، نشرتها جريدة الجمهورية فى صفحتها الأولى بين 18 و26 مارس 1967، تنادى بضرورة انضمام رجال النيابة والقضاء إلى عضوية الاتحاد الاشتراكى، وتنتقد مبدأ الفصل بين السلطات باعتباره «خرافة برجوازية» تقطع أواصر الصلة بين ممثلى قوى الشعب العاملة وقضاته، وتعزلهم عنه فى أفكار رجعية مثل استقلال القضاء عن السياسة.

 

وأتت هزيمة الجيش فى يونيو 1967 لتؤجل مشروع ضم القضاة إلى عضوية الاتحاد الاشتراكى، فانتهز القضاة الفرصة وأصدروا بعدها بأقل من سنة بيان الجمعية العمومية للقضاة فى 28 مارس 1968، الذى أعلنوا فيه رفضهم الرسمى للانضمام إلى الاتحاد الاشتراكى على كافة مستوياته، مع المطالبة بعدم إشراك غير المتخصصين فى أداء رسالة القضاء.

 

صدر البيان فى لحظة حرجة، فقد كان القضاة يعلمون بأن الرئيس جمال عبد الناصر على وشك الإعلان هو الآخر عن بيان له، يتناول فيه أسباب هزيمة 1967 ويعرض مجموعة من الإصلاحات الضرورية لتخطيها، ومن ضمنها الالتزام بسيادة القانون فى الحكم.

 

وحسب بعض المراجع فقد طلب وزير الداخلية حينئذ من كبار القضاة العدول عن إصدار بيانهم إلى أن يصدر بيان الرئيس ناصر، فيجدوا فيه ما يسرهم ويغنيهم، إلا أنهم رفضوا ذلك، فكان بيانهم فى 28 مارس، ليلى بعده بيومين إعلان ناصر عن بيان 30 مارس 1968، فيبدو الرجل وكأنه قد رضخ فى إصدار هذا البيان إلى ضغوط داخلية دفعته لتبنى نهج الإصلاح غصبا -- وليس عن نية صادقة مستقلة منه فى ذلك.

 

ومما زاد الطين بلة أن القضاء خلال هذه المرحلة أخذ يصدر بعض الأحكام غير المستقيمة مع هوى النظام، فكانت براءة أسرة الفقى فى الجناية رقم 22/1967 المعروفة بقضية «كمشيش» والتى اتخذها النظام ذريعة للتنكيل بمن تبقى من معارضيه سواء بالاعتقال أو الحراسة، عن طريق تشكيل ما عرف بـ«لجنة الإقطاع»، وبرئاسة المشير عبدالحكيم عامر.

 

ثم كانت الجنحة رقم 106/1967 والتى قضى فيها بإدانة أحد ضباط الشرطة لتهريبه سبائك ذهبية، فيما بدا تحديا صريحا من القضاء لسلطات وزير الداخلية، ومن بعدها الجناية رقم 113/1968 والتى حكم فيها ببراءة الأستاذ محمود عبداللطيف عبدالجواد المحامى من تهمة التآمر على قلب نظام الحكم، وكذلك الحكم ببراءة السفير محمد إبراهيم سوكة عن جناية التخابر مع دولة أجنبية.

 

وفى ظل هذه الأجواء كانت انتخابات مجلس إدارة نادى القضاة بالقاهرة فى 21 مارس سنة 1969، والتى انقسم المرشحون فيها صراحة بين معسكرين، الأول مؤيد والآخر معارض لبيان 28 مارس 1968، وقام عبدالناصر بمباركة هذا الجناح الأخير شبه رسمى بتعيين محمد أبونصير، أمين التنظيم الطليعى عن القانونيين، وزيرا للعدل قبل الانتخابات.

 

ثم كانت المفاجأة التى لم يتوقعها أحد، إذ أسفرت الانتخابات عن فوز جميع المرشحين المؤيدين للبيان إلى حد الإجماع، فحصدوا كل مقاعد مجلس إدارة النادى، فى تحد غير مسبوق للنظام.

 

كان الرد إصدار عبدالناصر لحزمة من القرارات الجمهورية بقوانين فى أغسطس سنة 1969، أطلق عليها آنذاك رسميا اسم «قوانين الإصلاح القضائي»، وتعارف مؤرخو القانون على تسميتها فيما بعد بقوانين «مذبحة القضاء».

 

أول هذه القوانين قضى بتشكيل المحكمة العليا (الدستورية العليا حاليا) وكان الغرض منها قصر سلطة الرقابة على دستورية القوانين فى يد مجموعة قضائية تطمئن السلطة التنفيذية إليها.

 

والقانون الثانى لنفس السنة أمر بإنشاء المجلس الأعلى للهيئات القضائية بذات الغرض، عن طريق هيمنة وزارة العدل على مقدرات القضاة فى وظائفهم.

 

وقام القانون الثالث بعزل 189 قاضى من مناصبهم، بالإحالة إلى المعاش، أو النقل لوظائف أخرى بعيدا عن منصة القضاء.

 

ثم أخيرا كان القانون بحل مجلس إدارة نادى القضاة المنتخب، واستبداله بآخر تم تعيينه.

 

ومن اللافت للانتباه أن حزمة «الإصلاحات» هذه استندت إلى قانون أصدره مجلس الأمة قبل أيام من اندلاع الحرب فى 5 يونيو 1967، تنازل بموجبه مجلس الأمة عن سلطاته التشريعية إلى رئيس الجمهورية، معطيا إياه الحق فى إصدار قرارت بقوة القانون خلال الظروف الاستثنائية «فى جميع الموضوعات التى تتصل بأمن الدولة وسلامتها».

 

ومن المذهل أن الرئيس جمال عبدالناصر استند إلى «قانون التفويض» هذا ليس فقط لإصدار قرارت بقوة القانون، بل وكذلك لإدخال تعديلات على نص دستور مارس 1964 نفسه! فأصدر فى 7 يناير 1969 إعلانا دستوريا ينص على اعتبار قرار فصل عضو مجلس الأمة من العضوية العاملة للاتحاد الاشتراكى العربى موجبا لإسقاط عضوية مجلس الأمة عنه أيضا.

 

ونكون بذلك قد وصلنا إلى آخر حلقات انهيار مبدأ الفصل بين السلطات فى نظام يوليو، بتنازل مجلس الأمة عن اختصاصه الأصيل فى التشريع لرئيس الجمهورية صراحة، بعد أن أصبح مجلس الأمة نفسه إمتدادا للاتحاد الاشتراكى أصلا.

 

وليس بخافٍ على القارئ اعتماد مجلس الشعب خلال حكم السادات ومبارك على ذات فكرة «قانون التفويض» فى ظل دستور 1971، بما حرم المجلس من مراقبة رئيس الجمهورية فى اتفاقيات التسليح واعتماداته الأخرى للقوات المسلحة والإنتاج الحربى، فضلا عن عقد القروض والتصديق على المعاهدات ذات الشأن الاقتصادى دون الرجوع للمجلس، وفى استمرار لجوهر القلب الأمنى للحاكم لنظام يوليو، رغم محاولة القائمين عليه تجميله بأشكال من القانونية فى مرحلته الثانية، مع السادات ومبارك، والتى نتناولها بالتفصيل فى الحلقة القادمة.

 

 

 

كتاب تحت الطبع تنشره دار الشروق قريبا

 

 

 

 

 

 

 

 

عمرو الشلقاني مدرس بكلية الحقوق جامعة القاهرة والجامعة الأمريكية بالقاهرة
التعليقات