فى الأشهر القليلة الماضية، تردد فى أرجاء الصين سلسلة من الأخبار السيئة يدور معظمها حول الاقتصاد. من أزمة طاحنة فى سوق العقارات، إلى تراجع تقديرات النمو الاقتصادى للعامين الحالى والمقبل، إلى تراجع الإنفاق على السلع الأساسية، إلى بيانات سيئة لبطالة الشباب.. وشهد شهر أكتوبر الماضى انخفاضا فى مؤشرى أسعار المستهلكين وأسعار المنتجين على السواء.
بعد مرور عامين على تخلف إحدى أكبر شركات التطوير العقارى فى الصين عن سداد سنداتها، أصبح تأكيد بكين على أن «كل شىء تحت السيطرة» غير قابل للتسويق. تزايدت المخاوف الصيف الماضى عندما توقعت شركة التطوير المتعثرة «إيفرجراند جروب» خسارة مجمعة قدرها 812 مليار يوان (112 مليار دولار أمريكى) لعامى 2021 و2022، وهو ما يعد أكبر من إجمالى أرباح الشركة منذ تأسيسها فى عام 1996.
أصداء عام 2008 أثارت قلق بعض المحللين بشأن ما يعرف بـ«العدوى المالية». ويتضمن ذلك السيناريو مخاوف مشروعة من أزمة حادة فى العقارات بالصين، قد تؤدى إلى انهيار كامل فى الاقتصاد المحلى، يتداعى له الاقتصاد العالمى بدرجات متفاوتة.
• • •
لكى نفهم حجم تلك الأزمة، يتعين علينا أن ننظر إلى التحول التاريخى نحو الملكية الخاصة للعقارات فى الصين. بالعودة إلى منتصف القرن العشرين، فى ظل نظام «ماو»، التزمت الصين بتفسير صارم للفكر الشيوعى، والذى كان يعنى سيطرة الدولة على الممتلكات والموارد. ولكن مع اقتراب القرن من نهايته، تبنت الدولة نموذجا أكثر تقبلا للفكر الرأسمالى. على سبيل المثال، اشتملت إصلاحات قطاع الإسكان فى عام 1998، على حق الفرد فى امتلاك مسكنه الخاص. وقد أدى هذا إلى تحول سريع نحو ملكية المساكن، مع انخفاض تكلفة الاقتراض، الأمر الذى أدى إلى تغذية الطلب غير المسبوق على التطوير والتمويل العقاريين. ويرتبط ذلك بشكل كبير بمدى سرعة التوسع الحضرى فى الصين. فى عام 1980، كان ما يقرب من 20٪ من السكان يقيمون فى المدن؛ وبحلول عام 2021، ارتفع هذا الرقم إلى 60%.. وقد أدى ذلك إلى بناء ملايين المساكن.
على مدى عقود من الزمن، أدى سوق الإسكان القوى فى الصين إلى انتشال الكثيرين من دائرة الفقر. وفقا لمسح أجراه بنك الشعب الصينى، شكلت العقارات 59% من أصول الأسر فى أوائل عام 2020، لكنها أنشأت برجا مائلا من الديون، حيث مثلت 75% من التزامات الأسر. يعتمد سوق العقارات الصينية على بنوك الظل (الإقراض الذى يتم خارج القطاع المصرفى التقليدى). وساهم ذلك فى وصول إجمالى ديون الشركات والحكومات والعائلات إلى أكثر من 300% من الإنتاج الاقتصادى السنوى.
ولأن الطلب على المنازل الجديدة أبطأ من العرض، فإن النموذج العقارى بأكمله أوشك على الانهيار، وهذه مشكلة مخيفة بالنسبة للصين، حيث تمثل صناعة العقارات 20٪ من الناتج المحلى الإجمالى (ترتفع إلى 35% إذا أخذ فى الاعتبار الإنفاق على الصلب والنحاس بغرض البناء، وصناعة الأثاث وغيرها من المكونات ذات الصلة) علما بأن هذا القطاع يمثل 16٪ فقط من الناتج المحلى الإجمالى للولايات المتحدة.
ولم يكن النمو الديموغرافى والتحضر هما المحفزان الوحيدان للطلب المتزايد على العقارات. فقد أدى تحسن نصيب الفرد فى الدخل القومى فى الصين إلى تمكين الأسر من توجيه مدخراتها نحو أفضل أداة استثمارية متاحة فى البلاد، والتى من المعتقد أنها العقارات. واستجابة لهذا الطلب المتزايد، احتاج المطورون إلى نفوذ مالى ضخم لسد فجوة السوق. اقترضت شركتا «إيفرجراند» و«كانترى جاردن»، الرائدتان فى مجال التطوير العقارى فى الصين، المزيد من الأموال من أجل بناء المزيد من المنازل. لهذا السبب، بلغت التزامات الشركتين عند كتابة هذه السطور 340 مليار دولار و200 مليار دولار على التوالى. وقد اتبع العديد من المطورين العقاريين الآخرين ذات النموذج فى الاقتراض.
أطلق البنك المركزى الصينى على جنون الاقتراض هذا وصف «التوسع المتهور»، وهو ما يعنى أن الحكومة لم تشجعه. فى النصف الأول من العام الحالى، أعلنت شركة «كانترى جاردن» العقارية عن خسائر بقيمة 6,7 مليار دولار، كما تراجعت مبيعاتها 44% على أساس سنوى فى الأشهر الستة الأولى من هذا العام. وتراجعت أسهم الشركة نحو 70%، بينما يتم تداول سنداتها حاليا بنحو 5 سنتات على الدولار (أى بنحو 5% من قيمتها). أثار هذا الأداء مخاوف من احتمال فشل الشركة فى سداد أقساط ديونها، مما يكرر سيناريو تعثر شركة إيفرجراند الذى بدأ قبل عامين. وفقا لبيانات مؤسسة «بلومبرج»، تخلف المطورون الصينيون عن سداد أقساط ما يقرب من 115 مليار دولار من أصل 175 مليار دولار من السندات الدولارية الخارجية المستحقة منذ عام 2021، مع إعادة هيكلة أو تمديد مجموعة أكبر من القروض المصرفية الداخلية.
ومع عمليات الإغلاق بسبب فيروس كورونا، من بين الأزمات العالمية المتتالية الأخرى، كان التباطؤ الاقتصادى أمرا لا مفر منه، وهو الذى كان كاشفا لأزمات قطاع الإسكان. خلت مناطق حضرية كبيرة من السكان، وأصبح بعضها يعرف باسم «مدن الأشباح». كان ذلك لأكثر من سبب، فالعديد من الأراضى تم بيعها للمطورين فى المناطق التى لم تكن هناك حاجة حقيقية للسكن فيها. كما أن بعض هذه العقارات تم شراؤها كاستثمارات وليس بغرض السكن.
وربما تكون الأزمة العقارية سببا فى إيقاظ اضطرابات اجتماعية، الأمر الذى يهدد اتفاق «دينج» الذى تبنى مبدأ «لا سياسة.. لا مشاكل» وهو ما أدى إلى إبقاء أعداد هائلة من السكان تحت السيطرة لعقود من الزمن. الاستثمارات المنزلية الحبيسة فى العقارات (التى انقضى موعد تسليمها) كانت سببا فى تظاهر المشترين بشكل متكرر ضد المطورين المتعثرين، وهو أمر يصعب التسامح معه فى دولة كالصين.
• • •
يعد الاقتصاد الصينى محركا رئيسا للاقتصاد العالمى، وهى ثانى أكبر اقتصاد فى العالم، ومسئولا عن 40% من النمو الاقتصادى العالمى. وقد أكدت وكالة «فيتش» للتصنيف الائتمانى على أن تباطؤ الصين «يلقى بظلاله على آفاق النمو العالمى» وخفضت توقعاتها للعالم بأسره فى عام 2024.
ويرى بعض المحللين أن الصين تتمتع بفائض تجارى ضخم، لذا سواء كان النمو أسرع أم لا، فإن هذا قد يكون محسوسا فى الصين أكثر من بقية العالم. ومع ذلك، إذا كان الوطن الذى يبلغ عدد سكانه 1,4 مليار نسمة ينفق بشكل أقل على السلع والخدمات، فإن هذا يعنى انخفاض الطلب على المواد الخام والسلع فى جميع أنحاء العالم. فى أغسطس 2023، استوردت الصين بما يقرب من 9% أقل مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضى. وعلى مدى السنوات العشر الماضية، تشير التقديرات إلى أن الصين قد استثمرت أكثر من تريليون دولار فى مشروعات البنية الأساسية الضخمة المعروفة باسم «مبادرة الحزام والطريق». وقد تلقت أكثر من 150 دولة الأموال والتكنولوجيا الصينية لبناء الطرق والمطارات والموانئ البحرية والجسور. وقد يكون التزام الصين بتمويل تلك المشروعات مقيدا فى ظل الوضع الحالى.
تشير «بلومبرج» إلى أن تراجع سوق الإسكان فى الصين أسوأ بكثير مما تظهره البيانات الرسمية، وأن انخفاض أسعار المنازل له عدد من التأثيرات غير المباشرة. وبالنسبة للشركات العالمية، من المتوقع حدوث تدهور فى الطلب الاستهلاكى. وهذا أمر مهم، مع العلم أن 200 شركة متعددة الجنسيات مقرها فى أمريكا وأوروبا واليابان تحقق نحو 13% من مبيعاتها فى الصين.
هناك أيضا بعض المخاوف الإضافية من أن الأزمات الاقتصادية المحلية قد تدفع الحكومة الصينية إلى اتخاذ خطوات أكثر عدوانية ضد تايوان، فى محاولة للوصول بشكل أفضل إلى الاقتصاد التايوانى القوى.
من ناحية أخرى، فإن الصين الأكثر ضعفا قد تسعى إلى ترميم العلاقات المتدهورة مع الولايات المتحدة. وقد ساهمت القيود التجارية الأمريكية فى انخفاض الصادرات الصينية إلى الولايات المتحدة بنسبة 25% فى النصف الأول من هذا العام، فى حين وصفت وزيرة التجارة الأمريكية «جينا ريموندو» الصين أخيرا بأنها دولة «غير قابلة للاستثمار» بالنسبة لبعض الشركات الأمريكية.
وتعتبر الهند أحد أهم المستفيدين من التباطؤ الصينى، إذ إن الشركات التى تغادر الصين تجد البديل المناسب فى الهند. على سبيل المثال، تزيد شركة «آبل» حاليا من إنتاجها التصنيعى فى الهند على حساب الصين. منتج هاتف «آيفون» الشهير كان يصنع بنسبة 95% فى الصين و5% فى الهند فى عامى 2020 و2021، والآن أصبح يصنع بنسبة 86% فى الصين و14% فى الهند. ويعتقد كثير من الخبراء أن الهند ستنمو بوتيرة أسرع من الصين وستحقق ما حققته الأخيرة من تقدم فى وقت أقل. ومن المتوقع أن تنمو الهند بنسبة 6,3% هذا العام (وفقا لصندوق النقد الدولى)، وسوف ينمو دخل الفرد فيها بنسبة 3,5% أسرع من الصين.
ويبدو أن بكين لم تتدخل بعد لحل الأزمة العقارية بأى نوع من الإنفاق التحفيزى الذى رأيناه فى أزمات مماثلة. فى عام 2008، خلال أزمة الرهن العقارى، أعلنت الحكومة عن حزمة تحفيز قياسية بلغت 586 مليار دولار لدعم الاقتصاد. وقد بلغ معدل النمو السنوى فى الصين خلال ذلك العام 9,7% نزولا من ذروة بلغت 14,2% فى عام 2007. ومن المتوقع أن ينمو اقتصاد الصين هذا العام بنسبة 5,4% فقط. ومع ذلك، يبدو أن الإجراءات الحكومية ضد أزمة سوق العقارات المتصاعدة منذ عام 2020 غير فعالة.