منذ بداية الثورة المصرية وتخرج علينا النخبة السياسية بتفسيرات متضاربة للعلاقة بين السلطة والمسئولية خلال المرحلة الانتقالية كما تعيشها مصر حاليا. وأقصد بالسلطة هنا السلطة السياسية الإلزامية المترتبة على تولى الفرد لمنصب رسمى فى الدولة.
كما أفرق هنا بين ثلاثة أنواع من المسئولية: المسئولية القانونية أمام الجهات القضائية المختصة، والمسئولية السياسية أمام أى جهة سياسية أعلى وفقا للدستور، وهناك أخيرا المسئولية الأدبية التى يمليها ضمير المرء عليه فى إطار المرحلة الحالية التى تمر بها البلاد والتى لا ترتب عليه أية محاسبة سوى أمام ربه وضميره ثم أمام الشعب. فما أتناوله هنا هو هذا النوع الثالث من مسئولية المواطن تجاه الوطن والأمة فى وقت تبقى فيه آليات المحاسبة القانونية والسياسية لأصحاب السلطة فى مصر معطّلة.
وكان آخر أمثلة التضاد فى اقتراب السياسيين للعلاقة بين السلطة والمسئولية فى مصر هو اللقاء الذى أجراه السيد منصور حسن ــ رئيس المجلس الاستشارى ــ فى مقابل البيان الذى ألقاه الدكتور محمد البرادعى لإعلان انسحابه من السباق الرئاسى. ففى حين برر الأول استمراره فى رئاسة المجلس الاستشارى بل وترشحه المحتمل لرئاسة الجمهورية بتحمله للمسئولية تجاه الوطن والشعب، برر الثانى انسحابه بنفس السبب. فالأول اعتبر وجوده فى دوائر السلطة السياسية حاليا ــ بكل ما عليها من غبار ــ جزءا من أدائه لواجب وطنى يمليه عليه ضميره، فى حين أجزم الثانى بأن الوصول إلى السلطة فى الإطار الحالى يتنافى مع المسئولية التى أقسم أن يتحملها تجاه الوطن.
ويقدم كل من هذين الخطابين نموذجا لتلك التفسيرات المتضاربة التى نتحدث عنها، حيث وصلت شخصيات ذات تاريخ مشرف إلى السلطة على المستويات العليا من الجهاز التنفيذى. وعندما تعالت الأصوات الناقدة للأداء السياسى لهم جميعا، برروا بقاءهم فى السلطة بتحملهم المسئولية الأدبية والتضحية بالمجد الشخصى فى سبيل خدمة الأوطان. بل ودفع بعض منهم بأنه من السهل عليه أن يترك الجمل بما حمل ويفر من ضغوطات المجلس العسكرى واتهامات الشارع وأن يعود إلى صفوف الثورة ولكنه يعتبر ذلك هروبا من المسئولية التى يحتمها عليه ضميره. وبالفعل، لم يكن كل من تولوا مناصب سياسية تنفيذية بعد ثورة ٢٥ يناير باحثين عن السلطة، ولكن كان الاقتراب الذى اختاروه فى تحمل المسئولية تجاه الأوطان يختلف عن الاقتراب الذى تبناه غيرهم من الذين رفضوا اعتبار أن المسئولية الأدبية تمر عبر السلطة التنفيذية واختاروا تحمل مسئوليتهم كمواطنين وكنخبة عبر قنوات أخرى مثل خوض الانتخابات التشريعية. كما اختلف اقتراب أولئك وهؤلاء عن شخصيات مرموقة أخرى رفضت حتى خوض الانتخابات وتبنت منطقا هو أقرب منه إلى العدائى تجاه تولى أية سلطة فى المرحلة الانتقالية.
***
ولكن مازال استمرار بعض الشخصيات التى يشهد لها تاريخها بالنزاهة فى السلطة يدفع للتساؤل: لماذا؟ لماذا اختاروا أن يتنازلوا عن بريق تاريخهم وما وصلوا إليه من مناصب ونجاحات قبل ثورة ٢٥ يناير واختاروا أن يستمروا فى تولى السلطة بالرغم مما يتعرضون له من ضغوطات سياسية من المجلس العسكرى والأنظمة العربية الحاكمة ومن انتقادات فى الشارع ــ علما بأن بعض هذه الانتقادات جاءت نتيجة قرارات لم يتخذوها بشكل مباشر؟ ألم يكن من الأسهل والأئمن أن يتنازل هؤلاء عن كراسيهم ويفضحوا مناورات الثورات المضادة فى أروقة مجلس الوزراء والمجلس العسكرى وباقى العواصم العربية؟ بل إن مثل هذا الفعل كان ليكسبهم شعبية كاسحة تضعهم فى صفوف «الشرفاء» ويتحولون إلى زعماء أو حتى إلى وجه تلتف حوله القوى الثورية المبعثرة.
من الممكن أن نستنتج إذن أن تفسير بعض السياسيين اليوم هو أن البقاء خارج السلطة يحد من الدور الذى من الممكن أن يلعبوه فى خدمة الوطن وأن البقاء فى إطار السلطة ــ وإن كانت فاسدة ــ يسمح لهم بالمشاركة ولو بشكل طفيف فى صنع سياسات هى فى جوهرها «أحسن الوحش» من باب الواقعية السياسية التى تعتبر أن السياسة هى فن الممكن. كما تنمو وجهة النظر بأن قطار المؤامرات ماضٍ وأنه لو ترك أى من هؤلاء منصبه فسيجد المتواطئون من يحل محله لتنفيذ مخططات الثورة المضادة. ولكننا اليوم نسألهم ونسأل من وصولوا إلى البرلمان: ما هو الحد الفاصل الذى يدرك عنده صاحب السلطة أن بقاءه فيها لا يجعله يتحمل المسئولية الأدبية تجاه وطنه بل يجعله جزءا من المؤامرة التى تحاك ضد الشعب فضلا عن احتمال إلقاء المسئولية السياسية والقانونية عليه عن قرارات لم يتخذها؟ ويبقى التساؤل: ما هو البديل «الفعّال» للبقاء فى السلطة من أجل خدمة البلاد وفقا لمعطيات المرحلة الانتقالية على أرض الواقع؟ هل هو النزول إلى الشارع فى وقت تترعرع فيه حركات المجتمع المدنى التى أثبتت أنها قادرة على إزعاج من هم فى السلطة لكنها أثبتت أيضا أنها غير قادرة على تشكيل كتلة مسئولة توازن كتلة المتواطئين على الثورة والمتعطشين إلى السلطة؟ وهل يكون هذا بديلا أصلا بالنسبة لعقلية هؤلاء الذين أمضوا حياتهم كرجال دولة يعملون فى الدوائر الحكومية ويفتقدون لمهارات العمل على مستوى القواعد الشعبية؟ أسأل د. محمد البرادعى الذى أحرج كل الباحثين عن السلطة ودفع كل مواطن مسئول فى مصر لوقفة مع نفسه: ما هو بديلك الفعال لخدمة مصر بعد اعترافك وغيرك من النبلاء بقصور نتائج عملكم من خارج دوائر السلطة لعدة سنوات؟
***
أتمنى ممن هم فى السلطة أن يوازنوا بين ما شهدته أوطانهم من مكاسب وما تخسره فى عهدهم. كما أتمنى ممن هم خارج السلطة أن يقفوا مع أنفسهم وقفة ليروا ما حققوه خلال المرحلة الانتقالية وهم خارجها. وأزعم أن الكثيرين ممن فى السلطة اليوم لم يتعرفوا بعد على هذا الحد الفاصل الذى يتحولون عنده من باحثين عن المسئولية ومتحملين لها إلى باحثين عن السلطة ومستمتعين بها. ولا أقول إن التعرف على هذا الحد الفاصل سهل. كما أتمنى أن يخرج علينا من يسبون من هم فى السلطة ويلعنونهم بمنهج بديل يتمتع بالفاعلية والنفاذ وتلتف حوله كل القوى الوطنية المسئولة. إن اختيار التواجد فى السلطة أو خارجها اليوم ليس هو المحك، إنما المحك هو أن يسأل المواطن المسئول نفسه ماذا حقق على أرض الواقع من مكاسب للوطن مقابل ما فوته من فرص نتيجة اختياره. فالسلطة السياسية الإلزامية من عدمها ليست من تصنع المواطن المسئول. وإنما يصبح المواطن مسئولا عندما تصبح السلطة بالنسبة له وسيلة يمكن الإبقاء عليها أو استبدالها فى سبيل تحقيق أهداف أسمى.