إن الذى يتابع ما جرى على الساحة الشرق أوسطية منذ حادث السابع من أكتوبر 2023 يدرك أنها كانت إشارة بدء استغلتها إسرائيل للجهر بمشروعاتها التوسعية العدوانية ذات الخلفية العنصرية التى لم تبرأ منها أبدًا، فالمشهد الحالى يضىء شمعة فى نهاية النفق ولكنه لا يوحى أبدًا بطلوع الفجر الحقيقى على هذه الأمة، لذلك فإننا نحاول أن نرصد فى أمانة الجوانب السلبية والمظاهر الإيجابية فى الأفق القريب والبعيد على حدٍ سواء وذلك حتى تكتمل لدينا صورة شاملة للوضع فى إقليم غرب آسيا وشمال إفريقيا تحت مظلة الشرق الأوسط.
إذا بدأنا بالسلبيات التى نشهدها أو (المربكات) على حد التعبير الذى خطه الاقتصادى الدولى د. محمود محيى الدين، فإننا نضع أيدينا على عدد من الإشارات والمخططات المكشوفة التى تمضى وراءها سياسة بنيامين نتنياهو وجماعته من المتطرفين دينيًا وعنصريًا وأخلاقيًا، فلا شك أن الدمار الذى لحق بغزة وضواحيها غير مسبوق فى التاريخ الإنسانى كله، فقد فقدت غزة وحدها ما يقرب من خمسين ألف شهيد من بينهم نسبة عالية من النساء والأطفال فضلاً عن أولئك الذين قضوا بسبب غياب المأوى وانعدام المأكل وهدم المنازل على أصحابها.
ثم تحركت قوافل الدمار إلى لبنان لتضرب فى وحشية البشر والحجر وعمدت إلى أكثر الأساليب خسة فى الصراعات البشرية وأعنى بها ظاهرة الاغتيال السياسى والتخلص من القيادات والزعامات بطلقات رصاص مباغتة أو انفجاراتٍ آثمة كما يفعل الجبناء دائمًا عندما تعوزهم الفروسية ولا يتمكنون من تحقيق انتصار وجهًا لوجه.
ودارت الدائرة على الساحة السورية فدمر الطيران الإسرائيلى البنية العسكرية التحتية للجيش السورى وتطاول على الأرض السورية خارج خريطة الاحتلال ليترك بصماته العدوانية عليها أيضًا، ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل طال ما كان يسمى بساحات الإسناد ضربات موجعة فى الشمال السورى والعراق فضلاً عن اعتقالات عشوائية فى الضفة الشرقية لنهر الأردن، وكأنما تأكد إسرائيل ذلك المثل العربى المقيت الذى يقول (الغجرية سيدة جيرانها).
ذلك كله يجرى فى ظل تحرشاتٍ وترتيبات تركية توحى بأن أنقرة طرف فاعل فيما جرى على ساحة الشام الكبير، وتجلت أسماء العثمانيين الجدد فى الأراضى السورية والمدن العراقية فضلاً عن الدولة الليبية، فأحلام تركيا تمتد جنوبًا حتى دول شرق أفريقيا مرورًا بأعالى النيل والمضى غربًا للعبث بمنطقة شرق المتوسط مخزن الغاز الكبير الذى يسيل له لعاب أردوغان ورفاقه.
كل ذلك والنيران تحرق أرض السودان وتلقى بأبنائه فى أتون المعارك وسعير الصراعات القبلية المدفوعة من الخارج، أما مصر فالتحرش المستتر يدور حولها والأطماع النهائية تفكر فيها، ذلك أن إسرائيل تتوهم أن يدها الطولى قادرة على إخضاع المنطقة بأسرها والقضاء على كل صوتٍ يناهض سياساتها أو يكشف مخططاتها وذلك بعدما وجهت ضربات عنيفة لأرض اليمن بدعوى تهديد الحوثيين لحرية الملاحة، بل إن الأمر قد تجاوز ذلك إلى تفكير إسرائيلى أمريكى مختلف يدور حول المغانم المنتظرة من كل ما جرى بعد أن تسكت المدافع ويهدأ غبار المعارك.
وسوف تفتح الإدارة الأمريكية وحلفاؤها ولاشك ملف المضائق المائية بدءًا من مضيق هرمز مرورًا بباب المندب وصولاً إلى قناة السويس وقد لا يقف الأمر عند ذلك بل يمتد إلى مضيق جبل طارق أيضًاـ وبذلك يتحكم الغرب وإسرائيل فى مسار التجارة الدولية وتصبح المنطقة تحت السيطرة الكاملة خصوصًا إذا تمكنت إسرائيل من تحقيق هدفها التاريخى فى خريطة إسرائيلية فى الشرق الأوسط تكون هى فيها صاحبة الريادة والكلمة العليا وكل ذلك يتم بالسلاح الأمريكى والعدوان المستمر المقترن بالشقاق العربى والانقسام الفلسطينى.
هذه بعض المظاهر السلبية للمستقبل الذى لا يبدو مبشرًا للمنطقة كلها، ومع ذلك فإننا نتطلع إلى الجانب الآخر من الصورة برمتها حيث نرى الضوء فى نهاية ذلك النفق المظلم يزداد وضوحًا كلما اقترب منّا، فسقوط نظام الأسد فى سوريا إيجابية كبرى لأن ذلك الحكم الدكتاتورى كان قد خنق الشعب السورى لأكثر من نصف قرن حيث أحكم بيت الأسد قبضته على الحياة والأحياء، ونقل سوريا من مصاف الدول المستريحة إلى مصاف دول اللاجئين والنازحين، وعرف السوريون طعم الإهانة وهم شعب الإباء والكرامة، وتحمّل ذلك الشعب من ألوان التعذيب والقهر ما لم يخطر على بال بشر.
سعدت الجماهير العربية بأن الله قد فك أسر الشعب السورى منبع القومية العربية وعاصمته بداية عز الشرق كما أسماها أمير الشعراء، إلا أن بعض الضباب ما زال يغلف الأجواء حول المجموعة التى قامت بتحرير وطنها وإنهاء الحكم الديكتاتورى على أرضها لاسيما أن معظمهم ينتمى إلى فصائل المقاومة المسلحة فكان من الطبيعى أن تلحق بهم اتهامات ــ صادقة أو ظالمة ــ بالتورط فى أعمال عنف وممارسات إرهاب، ولم يكن ذلك أمرًا غير متوقع بل كان منتظرًا فى كل الأحوال. وهكذا انقسم الجميع بين مؤيدٍ لهم ومبارك لدورهم وشكك فريق آخر فى نواياهم خصوصًا أننا لا نزال فى البداية والعبرة بالأفعال لا بالتصريحات والأقوال.
كانت بارقة الضوء الثانية هى انتخاب قائد الجيش اللبنانى العميد جوزيف عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية بعد شغور المنصب استمر لأكثر من عامين، حيث تضمن خطاب القسم الذى ألقاه الرئيس اللبنانى الجديد ما يوحى بالأمل وإن كنّا ندرك أن الأمر لا يقف عنده وحده فمنذ مؤتمر الطائف وتعديل صيغة 1943 وصلاحيات رئيس الوزراء تكاد أن تتفوق على صلاحيات رئيس الجمهورية فى لبنان، فالنظام هناك برلمانى يخضع للمعايير العصرية للحياة السياسية رغم كل مظاهر الفساد والانحراف التى عرفتها السنوات الماضية فى بعض مراحل الحكم بالدولة اللبنانية الراقية تاريخًا وحضارة وفكرًا.
لعلنا نشير هنا أيضا ضمن بوارق الأمل ما يمكن التعبير عنه فى الفترة الأخيرة من ترجيح كفة الجيش السودانى على حركة التمرد التى قام بها قطاع منه بحيث امتد القتال لما يقرب من عامين، كما أن الإقبال العربى على سوريا قد تزايد وبدا الأمر كما لو أن أمًا كبيرة تحتضن ابنها الغائب لأكثر من نصف قرن وهو يعود إليها بعد عقود من الظلم والظلام.
هنا يكون التساؤل مشروعًا هل حصيلة ما جرى حتى الآن توحى بالأمل وتبعث على التفاؤل أم أن الأمر غير ذلك؟! والإجابة على هذا التساؤل المحورى لابد أن تضع فى اعتبارها حجم المعوقات التى تعترض الطريق العربى والإسلامى والإفريقى وغيرها من مناطق الجنوب فى عالمنا المعاصر، إذ أن الإدارة الأمريكية الجديدة تقع تحت سيطرة رئيس يصعب التنبؤ بقراراته أو توجهاته كما أنه يحمل إرثًا من العداء المطلق لكثير من القوى الصاعدة فى عالمنا اليوم فهو يهوى التصريحات النارية والعبارات غير المناسبة مثل تهديده بالجحيم للشرق الأوسط ما لم تهدأ أموره قبيل تسلمه الرسمى للسلطة، فضلاً عن شطحات أخرى مثل الحديث عن الرغبة الأمريكية فى شراء جزيرة جيرنلاند للسيطرة على القطب الشمالى بل والحديث عن ضم كندا إلى الولايات المتحدة الأمريكية والاستيلاء على قناة بنما أيضًا، فالرجل يحمل فى جعبته عشرات الأفكار الغريبة ولكنه يحمل للشرق الأوسط مزيدًا من الدعم لإسرائيل وكثيرًا من الأطماع فى أموال العرب ورغبة دفينة فى تكريس بعض مظاهر العنصرية السياسية فضلاً عن أوهام السيطرة.
نقلا عن «إندبندنت عربية»