الاتفاق الوحيد فى المجتمع الإسرائيلى هذه الأيام هو الذعر والخوف والإحساس بالفشل بعد مشهد الحشود البشرية الفلسطينية التى تدفقت من الجنوب إلى الشمال فى قطاع غزة، موجهة أقوى ضربة فعلية للعدوان الإسرائيلى الوحشى والبربرى الذى بدأ فى 7 أكتوبر 2023 وتجمد فى 19 يناير الجارى.
«طوفان العودة» وهو العنوان الذى استخدمته «الشروق» فى صفحتها الأولى أمس، أصاب الإسرائيليين بالرعب وجعل عددًا كبيرًا من قادتهم خصوصًا فى اليمين المتطرف يسألون بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلى ساخرين: «أين هو النصر المطلق الذى وعدتنا به؟».
صورة الحشود التى تجاوزت 300 ألف شخص فى أقل من يومين وجهت أكبر ضربة لكل وعود نتنياهو وائتلافه المتطرف ونسفت الأساس والهدف الذى قام عليه العدوان.
طبعا لا أحد يجادل أن نتنياهو وجيشه دمر أكثر من 60٪ من قطاع غزة، وقتل أكثر من 47 ألف فلسطينى وأصاب أكثر من 110 آلاف معظمهم من النساء والأطفال، بخلاف المفقودين تحت الأنقاض.
ولا أحد يجادل أنه جعل القطاع غير صالح للحياة لوقت طويل، لكن ما لم يفكر فيه نتنياهو، ولا يدركه ترامب هو هذا الشعب الفلسطينى الجبار حقا الذى يتحمل كل ذلك منذ النكبة عام 1948 ويرفض أن يترك أرضه.
تابعت باهتمام كلمات وتصريحات الفلسطينيين العاديين الذين عادوا إلى بيوتهم من الجنوب إلى شمال القطاع.
جميعهم تحملوا التشرد والنزوح لـ 15 شهرًا. وانتظروا أيامًا طويلة للعودة، وساروا عشرين كيلومترًا على أقدامهم، وحينما وصلوا إلى بيوتهم المهدمة قال معظمهم: «نفضل أن نعيش ونقيم فوق أنقاض بيوتنا، على العيش فى المناطق التى كانت مسماة زورًا آمنة، والمؤكد أننا نفضل أرضنا على أى بقعة فى العالم». هذا صمود أسطورى لو قارناه بأى شعب آخر.
أحد السكان قال: «خسرنا الكثير، لكننا فى النهاية فرحون بالعودة إلى أرضنا. الطريق كان متعبًا وشاقًا ومشينا على أقدامنا لمدة ثلاث ساعات لنصل إلى عزبة بيت حانون فى الشمال».
وقد قرأت لجنرال إسرائيلى يقول: كنت أتمنى أن يبادر سكان شمال إسرائيل للعودة إلى بيوتهم كما فعل الفلسطينيون إلى الشمال أو سكان جنوب لبنان الذين عادوا إلى قراهم.
مشاهد عودة الفلسطينيين هى أخطر ما يزعج الإسرائيليين، لأنها تقول لهم بوضوح إن هذا الشعب الذى تحمل ما لا يتحمله أحد طوال 15 شهرا يمكنه أن يتحمل أى شىء آخر.
صحيح أنهم عادوا ووجدوا بيوتهم بل وأحيانا مناطقهم مدمرة تماما، وصحيح أن معظمهم ينام فى العراء، لكن فى النهاية فإنهم يعيشون وينامون فوق أرضهم، ويوما ما، حتى لو طال سوف يعيدون ترميم وإعادة إعمار وبناء ما تهدم حتى لو كان مجرد «عشة».
عاد الفلسطينيون إلى أرضهم ولم يجدوا بيوتهم أو البيئة التحتية أو المدارس أو المستشفيات أو المدارس أو الكهرباء ولا المياه ولا الصرف الصحى، ورغم ذلك كانوا سعداء. وهذا بالضبط ما يزعج إسرائيل، ويجعلها تتأكد أن الهدف الأساسى من العدوان لم يتحقق حتى الآن.
مرة أخرى إسرائيل دمرت معظم القطاع، حتى تصعب الحياة على الفلسطينيين، والمؤكد أن قلة منهم قد يفكر فى مغادرة القطاع، وهنا يأتى دور العرب والمسلمين وكل الشرفاء فى أى مكان بالعالم.
هذا الدور باختصار هو مد الفلسطينيين بكل سبل الحياة التى تجعلهم يتشبثون بأرضهم. مطلوب انتظام وزيادة المساعدات الإنسانية بأكبر قدر ممكن، مطلوب تزويدهم بالخيام والبنية التحتية.
أى شاحنة تدخل غزة، هى لبنة فى صمود الشعب الفلسطينى وإفساد للمخطط الإسرائيلى الأمريكى لتهجيرهم وتصفية قضيتهم.
من حق الفلسطينيين أن يفرحوا، لكن عليهم طوال الوقت أن يكونوا منتبهين للحيل والألاعيب الإسرائيلية الأمريكية التى لن تنتهى، وسوف تبدأ بالترغيب وتنتهى بالترهيب.
أيها الفلسطينيون افرحوا ولكن احترسوا.