ما زال لبنان ينتظر توافقات إقليميّة ودوليّة كى يتمّ انتخاب رئيسٍ له وتشكيل حكومةٍ وتعيين حاكمٍ لمصرفه المركزى. وهذا يلقى بالتأكيد إضاءات لافتة على العلاقات بين الداخل والخارج عندما تتداعى الدولة كمؤسّسة. هكذا تزداد تدخّلات الخارج بشكلٍ كبير عندما تصبح الدولة «هشّة»، أساسا على خلفيّة تداعى الروابط بين مجتمع البلد والسلطة التى تدير دولته.
هذا الأمر ليس حكرا على البلدان ذات النظام «البرلمانى»، حيث يتدخّل الخارج عبر دعم قوى سياسيّة معيّنة وتمويل أحزاب ومجموعات ضغط «وجمعيّات مدنيّة»، تجعل النجاح صعبا فى الانتخابات على من لا يمتلك قدرة توزيع منافع ومالا انتخابيا، أو لا يرغب فى الخوض فيها. ومثال تونس بُعَيدَ «ثورتها» جلى على هذا الصعيد. لكن ليس أقلّ سوادا وضع البلدان التى تدخُل فى صراعات أهليّة من جرّاء «الاستبداد» وانهيار علاقة المجتمع مع السلطة كليّا، حيث تتدخّل دولٌ مختلفة فى هذا الصراع الداخلى، بالمال و/أو السلاح و/أو المساعدات و/أو العقوبات. وما يولّد ديناميّة نفوذ فى هذه البلدان. كى يضحى الخروج من الصراع، كما كان الدخول فيه، مسرحا للتنافس بين هذه الدول الخارجيّة التى يبحث كلٌّ منها عن «عائدٍ على استثماره»، بصورة نفوذ على المدى البعيد.
إنّ غياب الحلّ لمثل هذا التنافس، حلٌّ تغطّيه الأمم المتحدة عبر آليّاتها، يُبقى الاستعصاء طويلا كما هو الحال فى ليبيا وسوريا واليمن. أمّا فى حالة السودان اليوم فما زال التنافس يجد ترجمته بمعارك مفتوحة على حساب المجتمع والبلاد.
ولكن ليس الخروج من الاستعصاء «السياسى» سهلا حتّى حين يتوقّف الصراع المسلّح. إذ سيدعم اللاعبون الخارجيون قوى وأحزابا وشخصيّات سياسيّة باعتبارها أقطابا لنفوذهم على الصعيد المحلى. ولا تستعيد الدولة دورها وعملها إلاّ إذا كان هناك منتصِر بين هذه القوى الخارجيّة أو حصل على الأقلّ توازنٌ فى التنافس الخارجى يسمح بإنهاء الاستعصاء. هكذا كان دور المرحوم رفيق الحريرى على صعيد خروج لبنان من حربه الأهليّة. وفى ظلّ توافقٍ إقليمى ودولى واسع نظرا لتاريخه الشخصى، ليس فى الخارج بل أصلا وخاصّة على الصعيد المحلى. لكنّه بالمقابل هو الذى وضع أسس توافق «أمراء الحرب»، الذين يلقى كلٌّ منهم الدعم من خارجٍ معيّن، على نهب البلاد. وما أخذ فى النهاية إلى الانهيار المالى الحالى. واليوم هناك كثرٌ يحلمون فى ليبيا وسوريا واليمن بدورٍ كدوره لما بعد الصراع والاستعصاء فى بلادهم.
• • •
فى البلدان العربيّة التى أضحت «هشّة» منذ تفجّر «الربيع العربى»، من الواضح أن استمرار الصراع أو الاستعصاء طويلا يدلّ على تعذُّر نجاح منتصِرٍ خارجى عبر قوّةٍ محليّة. وبالتالى، نهايات الصراعات والاستعصاءات، عبر توافقاتٍ خارجيّة، تنتظر تغيّرات ملحوظة فى اللعبة الإقليميّة والدوليّة، أو بدقّةٍ أكثر تغيّرات متتابعة.
حدث التغيّر الأوّل فى خروج روسيا عن «حيادها» حيال صراعات المنطقة بعد تفجّر ليبيا وانخراطها مباشرةً وعسكريّا فى الصراع السورى. ثمّ جاء تحوّل الدور التركى من التنسيق الفاعل مع الدول الأوروبيّة والولايات المتحدة إلى تنافسٍ معها وتنسيقٍ أكبر مع روسيا وإيران. وذلك رغم تواجدها فى حلف الأطلسى. ثمّ جاء التغيُّر الأهمّ حديثا عبر الاتفاق السعودى ــ الإيرانى برعايةٍ صينيّة. ولا تنبغى الاستهانة بهذا التحوّل الأخير، إذ إنّه يقوّض فى جوهره آليةً رافقت «فوضى» دول المتوسّط العربيّة لدفع اتفاقيات «أبراهام» نحو تطبيع العلاقات الرسميّة بين الدول العربيّة الخليجيّة و... إسرائيل، كى ينتهى الأمر بالسعودية ذاتها. كذلك يضع هذا التحوّل الأخير أسس إنهاء الصراع المزعوم «السنى ــ الشيعى» الذى أخذ المنطقة إلى الدمار.
واضحٌ أنّ هذه التغيّرات لم تساهم فقط فى القضاء على «فوضى الدولة الإسلاميّة» بل إنّها خلقت عناصر لإمكانيّة إنهاء «فوضى» الصراعات والاستعصاءات. مع ذلك ما تزال هناك معوّقات على صعيد اللعبة الإقليميّة والدوليّة أمام هذه الإمكانيّة. فهناك دولٌ تعتبر نفسها لاعبة بحجم اللاعبين المذكورين أعلاه ولا تجد «عائدا على استثمارها» فى الصراعات والاستعصاءات القائمة. ليس أقلّها أهميّةً بالتحديد... إسرائيل.
إنّ القائمين على السلطة فى إسرائيل يواجهون مشاكل «داخليّة» خانقة، سواءً بين مستوطنيها القدماء الذين يبحثون عن الرخاء وأولئك الجدُد المتطرّفون الذين يتطلّعون إلى نهاية التاريخ، أو بين هؤلاء وأولئك والفلسطينيين فى أراضى 1948 أو الضفّة والقطاع. وتجتاح هذه السلطة دوريّا الرغبة فى التغطية على صراعاتها الداخليّة عبر عمليّات قصفٍ أو اغتيالٍ هنا أو هناك، أو حتّى بالذهاب نحو مغامرة حربٍ مع الجوار، وخلق وهمٍ بالقوّة والانتصار. وذلك خاصّةً إذا ما بدا أنّ هناك بوادر إنهاء «الفوضى» فى هذا الجوار. فوضى كانت إسرائيل هى أكبر المستفيدين منها، خاصّةً إذا استمرّت الهشاشة فى تعميق نخرها فى سوريا والعراق وغيرهما.
بالتأكيد ليست إسرائيل هى الوحيدة التى لا تجد «عائدا على استثمارها» فى «الفوضى» بل هناك أيضا دولٌ أخرى إقليميّة وكبرى، تعمل تحت غطاء استخدام وسائل... «القوّة الناعمة».
فى المحصّلة، تبقى الإشكاليّة الأساسيّة فى خروج الدول «الهشّة» من هشاشتها، وإعادة بناء مؤسّساتها واللُحمة والثقة بينها وبين مجتمعها، هى، أى الإشكاليّة، ذات طبيعة داخليّة. أى لا بدّ من عودة الدول المعنيّة إلى دورٍ قادرٍ فى ترسيخ العدالة والقانون بين مواطنيها ومواطناتها، أى إخراج مجتمعها من الفوضى، وأن تستثمر التوافقات الخارجيّة لوضع حدودٍ لنفوذ الخارج» فى أمورها.
̉• • •
هذا الأمر ليس سهلا ولا يُمكِن أن يأتى بلحظة، خاصّةً فى بلدانٍ حافظت تاريخيّا على تنوّع هويّات فى مجتمعاتها، وما يشكّل فى الواقع سبيلا لنفوذ الخارج، اليوم كما فى زمن الاستعمار المباشر القديم. وما يعنى أنّ على السلطة التى ستخرج البلاد من الفوضى والاستعصاء أن تترفّع عن منطق الصراعات الداخليّة وتتعامل بحكمة مع المظالم... كما المطامع. لا كى تبقى سلطة «للأبد» بل كى تعود للدولة ولمؤسساتها ذات القدرة. والتعامل بحكمة لا يعنى استخدام القوّة والاستقواء بخارجٍ ما. كذلك على هذه السلطة أن تتعامل بحكمة مع الخارج، بحيث تبنى على التوافقات وتعالج المعوّقات. بناءً على أنّ جميع قوى الخارج لا تعمل «لترسيخ الديمقراطيّة» أو «لدرء المؤامرات»... بل لمصالحها. هى جميعها جزءٌ من المشكلة كما جزءٌ من الحلّ. هذا فى ظلّ ظروف صعبة من تعدّد الأقطاب الإقليميّة والدوليّة وصراعات عالميّة مفتوحة ونفوذٍ كبير لدولٍ فاعلة لا مصلحة لها واقعيّا وأساسا سوى فى استمرار الفوضى.
يتنطّح كثيرون للقيام بهذا الدور، سواءٌ أكانوا من ورثة سلطة ما قبل الصراع أو ممّن أفرز الصراع والفوضى أدوراهم. لكن السؤال الأساس يبقى أنّه إذا كان بين الذين يتنطّحون لهذه المهمّة من يتمتّع بالحكمة اللازمة للتعامل مع المظالم والأطماع الداخليّة وفى الوقت نفسه مع «لعبة الأمم» الإقليميّة والدوليّة. لا لمكاسب شخصيّة، لأنّها مهمّة خطرة وصعبة، بل من أجل مجتمعهم وبلادهم... وفى النهاية من أجل ترسيخ الدولة التى ستقود البلاد والعباد إلى برّ الأمان.
رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربيةــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب