تعدد الأغراض - أحمد مجاهد - بوابة الشروق
الإثنين 6 يناير 2025 10:53 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

تعدد الأغراض

نشر فى : الأحد 28 يونيو 2009 - 8:51 م | آخر تحديث : الأحد 28 يونيو 2009 - 8:51 م
الغرض فى الشعر هو الموضوع، وقد اعتادت القصيدة العربية القديمة منذ العصر الجاهلى على الانتقال بين الموضوعات المتعددة داخل القصيدة الواحدة فيما يشبه التقليد الأدبى الصارم، حيث كانت القصيدة الجاهلية تبدأ بالوقوف على الأطلال، ثم تنتقل إلى موضوعات أخرى هامشية مثل وصف الرحلة، والصيد، والنسيب، قبل الانتقال للغرض الرئيسى من القصيدة، مما جعل أنصار التجديد الشعرى يتهمون القصيدة الكلاسيكية عموما بالتفتت، وعدم الوحدة الموضوعية، وإمكان التقديم والتأخير بين أبياتها دون حدوث خلل فى بنائها المتداعى.

وعلى الرغم من القبول النظرى للرأى السابق، فإن مهارة الشاعر وموهبته الفنية المتميزة تضمن له السيطرة المحكمة على بنية القصيدة المتعددة الأغراض داخل نسق شعورى وفكرى واحد. ويمكننا أن نرى هذا فى قصيدة المتنبى الشهيرة التى قالها فى عتاب سيف الدولة قبيل الرحيل عن بلاطه، حيث جمع فيها بين الغزل والمديح ووصف الحرب والعتاب والفخر والحكمة من خلال نسيج واحد متماسك.

تبدأ القصيدة بثلاثة أبيات من الغزل يقول فيها المتنبى:

واحَـــرَّ قلــباه ممـــن قلبه شــــبمُ
ومن بجسمى وحالى عنده سَقَمُ
ما لى أكتم حبا قد برى جسدى
وتدعى حُبَّ سيف الدولة الأممُ
إن كان يجــمــعنا حـــبٌ لغـــــرته
فليت أنَّا بقــدر الحـــب نقتســــمُ

إن المقدمة الغزلية المعتادة فى القصائد العباسية لا تندرج فى هذا النص داخل إطار المقدمات، حيث دخل فيها الشاعر مباشرة من خلال الرمز إلى جوهر المشكلة المتمثل فى الإشارة إلى الوقيعة التى سعى بها بعضهم بين المتنبى وسيف الدولة، فأحدثت فتورا فى العلاقة بينهما، وقربت بين الآخرين وسيف الدولة، على الرغم من أن العلاقة بين سيف الدولة الحاكم والمتنبى الشاعر هى الأشهر فى تاريخ المديح العربى، وهى الأعمق والأصدق نظرا لاقتناع كل منهما بإمكانات الآخر وقدراته الخاصة، بغض النظر عن حاجته إليه.

فقد دخل المتنبى فى صلب الموضوع حتى فى مقدمته الغزلية، مستخدما أسلحته البلاغية الفتاكة القادرة على إقناع المتلقى بصدق ما يقول. فهو يبدأ قصيدته قائلا «وا» فى صرخة دالة على الألم والتأوه من هول ما حدث من تحول مفجع فى العلاقة، لكنه يوضح من خلال التقابل التالى أن هذا التحول من جانب سيف الدولة فقط، فما زال قلب المتنبى حارا ملتهبا بحب سيف الدولة الذى صار قلبه شبما باردا تجاه المتنبى.

ويضيف المتنبى فى الشطرة التالية تجسيد المعنوى فى صورة حسية لتوضيح المعنى وتقويته، مشيرا إلى أن ما يلاقيه من ضعف وهوان فى المعاملة، قد أصبح منعكسا وباديا على ضعف جسده وشحوبه.
أما البيت الثانى فيتأسس على تقابل مزدوج، الأول فى الشطرة الأولى التى يقول فيها: «ما لى أكتم حبا قد برى جسدى»، وهو تقابل معنوى أعمق من التقابل اللفظى البسيط بين مفردتين، إذ كيف للمتنبى أن يدعى كتمه لحب سيف الدولة وهو يقر فى اللحظة ذاتها بأن أثر هذا الحب قد انتقل من مصاف المشاعر الدفينة التى لا يلمحها أحد إلى ساحة العلامات الجسدية البادية للعيان من ضعف وهزال؟

وتدخل هذه الشطرة مجتمعة فى تقابل دلالى آخر مع الشطرة التالية التى يقول فيها« وتدعى حب سيف الدولة الأمم»، فبينما يسطع حب المتنبى لسيف الدولة واضحا للعيان من خلال ضعفه وشحوبه فهو يحاول إخفاءه، وبينما يطنطن الآخرون من أطراف ألسنتهم بحب سيف الدولة فهم مجرد مدعين يكذبون بغرض التزلف والتملق.

أما البيت الثالث والأخير من المقدمة الغزلية فهو يتأسس أيضا على تقابل، ولكنه تقابل لغوى غير حرفى بين «الجمع» و«الاقتسام» الذى هو مرادف للتفريق، حيث ينتقل المتنبى من سوء الظن الذى يحسب فيه حب الآخرين لسيف الدولة مجرد ادعاء، إلى حسن الظن الذى يفترض فيه أنهم أيضا يحبونه حبا صادقا، لكنه يقطع بأنه حتى وإن كان حبهم صادقا فلا يمكن أن يعادل مقدار حب المتنبى لسيف الدولة، ولذلك يتمنى أن يكون لكل منهم نصيب من ود سيف الدولة بقدر حبه له.

وينتقل المتنبى بعد هذه المقدمة الغزلية التى دخل خلالها إلى صلب الموضوع الذى يملأ عليه فكره ووجدانه إلى بيتين فى المديح، حيث يقول:

قد زرته وســيوف الهـند مغمدةٌ وقـد نظــــــرت إليه والســـــيوف دمُ
فكان أحســــن خـــلق الله كلهم وكان أحسن ما فى الأحسن الشيمُ

والبيت الأول يضم كنايتين، الأولى تتمثل فى وجود السيوف بجرابها كناية عن أوقات السلم، والأخرى تتمثل فى امتزاج السيوف بالدماء كناية عن أوقات الحرب، حيث يؤكد البيت الثانى فى واحدة من مبالغات المتنبى الشهيرة أن سيف الدولة كان أحسن خلق الله كلهم، وأن أحسن ما فيه هو أخلاقه فى حالتى السلم والحرب.

والبيتان جملة -بغض النظر عن كونهما فى المديح- كناية عن عمق العلاقة وامتدادها بين المتنبى وسيف الدولة، هذا العمق الذى لا يسمح بالتحول المفاجئ فى العلاقة تأسيسا على وشاية مغرضة، ومن ثم يصبحان فى صميم الغرض الرئيسى أيضا على المستوى الفكرى والوجدانى.
التعليقات