هل نحن شهود على مطالع حرب باردة جديدة بين الولايات المتحدة وروسيا، تشكل منطقتنا العربية إحدى ساحاتها الاثيرة؟ وهل استخدام هذا المصطلح هو من قبيل الاستعجال واستباق الامور ليس إلا؟
توقّع كثيرون ان تشجع الازمة المالية التى عصفت بالولايات المتحدة على نشوء تعددية فى مراكز القوى العالمية على حساب الانفراد الأمريكى الذى أسست له الادارات الأمريكية منذ انتهاء الحرب الباردة، وعمدّته بالحديد والنار فى حرب الخليج الاولى ١٩٩١ والحروب التى اعقبتها.
●●●
كثر الحديث عن نمو قوة الهند الاقتصادية، والاهم نمو القوة الاقتصادية والمالية والعسكرية الجبارة للصين، مصنع العالم والدائن الاكبر للولايات المتحدة. ولم يُلفَت النظر بما فيه الكفاية لما حصدته وتحصده روسيا من التراخى، حتى لا نقول التفكك، الذى اصاب نظام الانفراد الأمريكى فى مفاصله الجيوستراتيجية اكثر منها الاقتصادية. ويصدف ان «الشرق الأوسط الأكبر» يشكل اكبر ساحات هذا التفكك، وفى رأس مشكلاته المراوحة العسكرية فى أفغانستان وباكستان والملف النووى الإيرانى واستعصاء الحلول الاقليمية والاممية حول النزاع السورى.
لا شك فى ان لروسيا أسبابا عدة لاقحام نفسها فى المنطقة. فلها عين على حقول النفط والغاز قبالة سواحل فلسطين المحتلة ولبنان وسوريا وقبرص. ولها مخاوفها الشيشانية والقوقازية من تنامى الحركات الاسلامية من خلال انتفاضات «الربيع العربى». لكن الاهم هو ان أزمات المنطقة وفرت فرصة نادرة للعبها ادوارا فى المنطقة قابلة لأن تعيدها إلى مصاف الدولة الكبرى كائنا ما كان هذا الكِبَر. منذ سقوط الاتحاد السوفييتى، والولايات المتحدة تتعاطى مع روسيا بناء على الاولوية الاستراتيجية: منع ان ترتقى أى دولة فى العالم إلى مصاف المنافسة للولايات المتحدة فى الأسبقية العسكرية المطلقة، ووجوب ان تكون مستعدة حتى للحرب استباقا لهذا الاحتمال. ومعلوم ان هذه الاستراتيجية صاغها المحافظون الجدد بعنوان «مشروع من اجل قرن أمريكى جديد» منذ العام ١٩٩٥، وتحولت إلى سياسة رسمية فى عهدى الرئيسين بوش الاب والابن.
تضمنت هذه الاستراتيجية، فى ما تضمنت، تعزيز قوة الحلف الأطلسى، بدلا من تفكيكه استجابة لتفكيك حلف وارسو، وانضمت اليه بلدان عدة من اوروبا الوسطى والشرقية. وبوشر نصب الصواريخ فى وجه روسيا الاتحادية فى بولونيا وتركيا. وبدلا من المواجهة، اختار فلاديمير بوتين الطريقة المخابراتية للرد، متسللا عبر ازمات منطقة الشرق الأوسط من خلال دعم المحور الإيرانى السورى واستغلال تعثر الهيمنة الأمريكية فى المنطقة وورطاتها الكثيرة، ساعيا إلى فرض روسيا شريكا دوليا ووسيطا فى فك استعصاءات أزمتى المحور المذكور.
●●●
وتشير كل الدلائل إلى ان الولايات المتحدة ارتضت دورا رئيسا لروسيا فى مسألة النووى الإيرانى والنزاع الدموى السورى لاستبعاد الحل العسكرى فى الحالتين. وان اختيار فلاديمير بوتين مباشرة جولاته فى المنطقة بزيارة لإسرائيل وأراضى السلطة الفلسطينية لا يجب ان يدعو إلى الاستغراب. فالرجل الذى يعتبر أقرب الزعماء الروس إلى إسرائيل، لن يكتفى من الزيارة بنيل الاعتراف بدور روسيا طرفا رئيسا فى حل قضايا المنطقة، بل سوف يؤكد ان دعم النظام السورى لا يتعارض مع التحاور مع الدولة الصهيونية حول رؤيتها لحل ازمتى النزاع السورى والنووى الإيرانى، بعد ان خفتت طبول الحرب الإسرائيليية ضد طهران وخرجت الأوساط الرسمية الإسرائيلية عن سياسة الصمت عن مجريات الأزمة السورية.
مع ذلك لم يخلُ الامر من قرقعة طبول وجلبة سلاح خلال الأسبوع الأخير.
تصاعد الطابع العسكرى للنزاع فى سوريا، فبات فى الإمكان الحديث عن حرب بين «جيشين» إن كانت لم توِقف قتل النظام للمدنيين وارتكاب المجازر بحقهم، الا ان «الجيش السورى الحر» لم يعد بحاجة لتبرير عملياته العسكرية بالحديث عن «حماية التظاهرات السلمية». ولم تعد البيانات العسكرية تتجاهل القتلى بين عسكريى الطرفين، بل دخلت الخطط العسكرية مرحلة جديدة ومتصاعدة. يسعى الجيش النظامى إلى احتلال المناطق الخارجة عن سلطته فى الاطراف معتمدا سياسة القصف بقصد تهجير السكان من المدن والبلدات الرئيسة. وتردّ فرق «الجيش السورى الحر» على الهجمات على مواقعها فى الاطراف بالدفاع أو الانسحاب، لكنها تنتقل للضرب والاختراق فى ريف دمشق وفى أحياء العاصمة ذاتها.
بموازاة ذلك، يتصاعد تبادل الاتهامات بين موسكو وواشنطن بتسليح هذا الطرف وذاك. وقد شهد الأسبوع الأخير تحرك قطع من أساطيل البلدين نحو سواحل البحر الأبيض المتوسط. وإذا بحادثة إسقاط طائرة الاستطلاع التركية بواسطة الدفاعات الأرضية السورية تزيد فى الطين بلّة وتعطى المبرر لرئيس الوزراء التركى رجب طيب اردوغان كى يقحم مجلس الحلف الأطلسى لأول مرة فى النزاع السورى، بما يتضمنه ذلك الإقحام من تلويح أطلسى ضد روسيا أيضا.
●●●
والسؤال هل اننا مجرد شهود لافتتاح هذه الحرب الباردة الجديدة التى لم تأخذ كل مداها بعد؟ وهل الجلبة الحربية ايذان بالمزيد من التصعيد والدماء والدمار، أم هى المقدمات الأخيرة لتسوية ما؟
المؤكد اننا فى ازاء ذروة جديدة فى سياسة اعتمدها النظام السورى منذ بدء الثورة، بديلا من الحوار مع جزء حيوى ثائر من شعبه، إذ عمد إلى أقلمة النزاع بتوسيط تركيا ثم تعريبه بتوسيط قطر ثم الجامعة العربية وصولا إلى تدويله فى مجلس الأمن، انطلاقة مبادرة كوفى أنان، التى قد تلفظ انفاسها على الأرض فى سوريا، لكنها لاتزال نقطة الالتقاء والتجاذب بين موسكو وواشنطن.
أقل ما يقال ان مرحلة من التدويل والعسكرة ترزح الآن على شعب سوريا الذى يريد إمساك مصيره بيده واختيار نظامه السياسى والاقتصادى الذى يلتقى وطموحه وتطلعاته، وبناء سوريا جديدة مدنية وديمقراطية وبرلمانية. لكن لا بد من القول ان الحلول المدوّلة من ليبيا إلى اليمن مرورا بمصر والبحرين، هى حلول تُؤْثر العسكر أم هى حلول تأتى بأنظمة سياسية ذات قاعدة عسكرية. وليس يبدو ان سوريا سوف تشكل الشواذ عن هذه القاعدة. فقد يختلف الطرفان الروسى والأمريكى حول من يجب ان يذهب ومن يجب ان يبقى من القيادات العسكرية والأمنية والسياسية الحاكمة فى سوريا،. لكن الحاكم السورى وقد «جاء بالدبّ إلى كرمه»، يصعب ان يفلت من ان يكون بين ضحاياه.
فى الانتظار، لنترك للناطق باسم الخارجية السورية أن يقيم الارض ولا يقعدها احتجاجا على «عدوان» طائرة استطلاع تركية خرقت «السيادة السورية» إذ توغلت مسافة ميل واحد فى المجال الجوى السورى، أو حتى فى المجال الجوى المشترك بين البلدين، فأسقطتها الدفاعات السورية. ولنتأمل حزانى فى موظفى درجة ثالثة أو رابعة فى واشنطن وموسكو يتداولون فى اعادة تركيب قيادة «جيش تشرين»، ويختلفون عمن عليه ان يذهب ومن يحق له يبقى من ضباطها.
وهذا منسجم تماما مع السيادة السورية.
ينشر بالاتفاق مع جريدة السفير اللبنانية