خلال حضورى جلسة الاستماع الخاصة بالموافقة على ترشح سفيرة جديدة لواشنطن لدى القاهرة بلجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ الأمريكى يوم 21 يونيو 2011، وصف السيناتور جون كيرى السفيرة آن باترسون بأنها من أفضل الدبلوماسيين الذين يخدمون مصالح أمريكا فى الخارج، وأنها جديرة بتولى منصبها الحساس الجديد كسفيرة للولايات المتحدة فى مصر.
ثم تحدثت باترسون عن أولوياتها فى مهمتها الجديدة وعلى رأسها دعم عملية الانتقال الديمقراطى إذ رأت أن غالبية المصريين سيشهدون للمرة الأولى فى حياتهم انتخابات حرة. وأشارت باترسون إلى أنه خلال المرحلة الانتقالية فى مصر سوف تسمع الولايات المتحدة الكثير من الأصوات التى لن ترضى مصالحها وأن العملية الديمقراطية فى مصر ستكون صعبة للغاية بسبب حداثة وهشاشة المؤسسات الديمقراطية المصرية.
وصدقت توقعات السفيرة الأمريكية عن صعوبة عملية الانتقال الديمقراطى إلا أن خيالها لم يتسع لتصور أن تصبح هى شخصيا هدفا تنال منه الكثير من القوى السياسية الإسلامية وغير الإسلامية على السواء. يهاجمها الإسلاميون ممن يخشون سقوط الرئيس محمد مرسى، ويفضلون أن يلقى اللوم على الأمريكان، ويهاجمها الليبراليون بدلا من الاعتراف بضعفهم وبفشلهم السياسى والانتخابى.
•••
منذ تقديم السفيرة باترسون أوراق اعتمادها للمشير حسين طنطاوى يوم 17 أغسطس 2011، ربط الإعلام بين خبرتها السابقة كسفيرة فى باكستان وبين مهامها فى القاهرة واتهمها الكثيرون بأنها تهدف لترويض القوى الإسلامية ونشر الفوضى فى مصر. وخرجت العديد من الشائعات التى تناقلها بعض وسائل الإعلام المصرية ولم تصححها حتى بعدما ثبت عدم صحتها.
فعلى سبيل المثال تداولت بعض وسائل الإعلام فى يناير الماضى تقريرا حول إدلاء السفيرة باترسون بتصريحات إلى صحيفة معاريف الإسرائيلية تقول فيها إن لإسرائيل الحق فى أراضٍ مصرية، وكان تقريرا كاذبا بينما فى الواقع لم تجر السفيرة أية حوارات صحفية مع جريدة معاريف.
وفى فبراير الماضى وبعد كلمة للسفيرة فى نادى روتارى علقت فيها على دعوات بعض القوى السياسية لعودة حكم العسكريين قائلة «التدخل العسكرى ليس الحل كما يدعى البعض. الجيش المصرى والشعب المصرى لن يقبلا بذلك كنتيجة»، حرف عدد من الصحف والفضائيات هذه الجملة وذكروا على لسان باترسون أن «الإدارة الأمريكية لن تسمح بعودة الجيش المصرى للحكم».
ثم ذكرت السفيرة فى كلمة لها أمام مركز ابن خلدون الأسبوع الماضى «أن مصر تحتاج استقرارا حتى تقوم بتنظيم اقتصادها والعنف فى الشوارع سيضيف أسماء جديدة إلى قوائم الشهداء. وبدلا من ذلك اقترح أن يقوم المصريون بتنظيم أنفسهم. انتموا إلى حزب أو ابدأوا حزبا يعبر عن قيمكم وتطلعاتكم. المصريون يحتاجون أن يجدوا طريقا أفضل للأمام، وهذا سوف يأخذ وقتا. يجب عليكم أن تشمروا عن سواعدكم وتعملوا على الارض بجدية.
وسوف تكون نتيجة التقدم بطيئة وسوف تشعرون كثيرا بالإحباط. لكن لا يوجد طريق آخر». وما أن انتهت السفيرة من كلمتها إلا وخرجت حملة إعلامية سياسية ضدها حيث تمت ترجمة ما ذكرته على أنه رفض منها لعودة الجيش مرة أخرى للحكم فى مصر ورفضها لتظاهرات 30 يونيو ودعمها حكم الإخوان المسلمين فى مصر.
وخرجت عناوين بعض الصحف المصرية تصف السفيرة بأنها «سفيرة جهنم» وأنها «المندوب السامى الأمريكى فى مصر» و«باترسون الوقحة» و«باترسون الخنفساء البيضاء» وعشرات من العناوين الأخرى غير اللائقة.
•••
بصفة عامة يقوم السفير بعدة مهام منها تمثيل دولته وعرض وجهة نظر بلاده فى القضايا المهمة فى الدولة التى يعمل بها، كما يشارك فى عملية صنع قرار دولته بإبداء الرأى وإرسال تقارير وتقديم مقترحات.
وتطورت حسابات السفيرة باترسون منذ قدومها للقاهرة معتمدة على أربع نقاط أساسية:
أولا: إن فوز الإخوان المسلمين ومرشحى التيار الإسلامى بكل الانتخابات والاستفتاءات التى شهدتها مصر مثل مجلس الشعب ومجلس الشورى وانتخابات الرئيس والتصويت على الدستور هو دليل على قوتهم الكبيرة.
ثانيا: إن جماعة الاخوان المسلمين جاهزة للحكم ولإدارة شئون الدولة المصرية.
ثالثا: إن المعارضة غير الإسلامية منقسمة على نفسها وتفتقد لقيادة يجمعون عليها وليس لها صلة بالشارع والمواطن المصرى.
رابعا: إن الشعب المصرى يشعر بالإرهاق والتعب من الفترة الانتقالية ويريد الاستقرار.
من هنا خلصت باترسون وواشنطن إلى أن تيار الإسلام السياسى سيحكم مصر، وأنه يجب على واشنطن أن تعول على الإخوان المسلمين فى القضايا الإقليمية المهمة، وهو ما حدث فى أزمة غزة ويحدث الآن فى الأزمة السورية. وظلت قضايا الداخل المصرى تحصل على اهتمام ثانوى وكان اتباع القيادة المصرية الجديدة لنفس السياسات الاقتصادية الليبرالية التى تبناها نظام مبارك وتوسيعها لاتفاقيات الكويز عاملا مشجعا فى الحسابات الأمريكية.
•••
يعد منصب السفير فى مصر من أهم المناصب فى الخارجية الأمريكية إلا أن للمنصب تداعيات سلبية تتعلق بتضخم الدور وإغراء الأهمية خاصة تعامل السفيرة باترسون مع نخبة مصرية من مختلف التوجهات تتميز بمبالغة شديدة فى حجم وقوة ونفوذ الدور الأمريكى.
نعم خطت السفيرة الأمريكية خطوة زائدة فى تواصلها مع تيار الاسلام السياسى، وظهر ذلك واضحا فى لقاءاتها غير الضرورية مع كبار قادة الإخوان، مع الدكتور محمد بديع مرشد الجماعة والمهندس خيرت الشاطر نائب المرشد، وهو ما يثير التساؤل عن المغزى والدور الأمريكى فى التفاعلات السياسية الجارية فى مصر.
وبينما تحرص واشنطن على مرونة علاقاتها بحكام مصر بحيث تتفادى ربط مصالحها الاستراتيجية بشخص أو تيار بعينه، ولا أدل على ذلك من استقرار المصالح الأمريكية خلال العامين الماضيين رغم انتقال الحكم من الرئيس مبارك للمجلس العسكرى ثم للرئيس محمد مرسى. إلا أن النخبة المصرية الحاكمة والمعارضة على حد سواء لا تزال أسيرة أوهام الهيمنة الأمريكية، ولعل الخطر الأكبر الذى يهدد الانقال الديمقراطى فى مصر هو استمرار إيمان هذه النخبة أن كل ما يحدث فى مصر هو جزء من استراتيجية كبرى خطط لها تفصيليا فى دهاليز واشنطن وليس نتاج تفاعلات وتوازنات الداخل المصرى.