أسراب الغروب - جميل مطر - بوابة الشروق
الخميس 12 ديسمبر 2024 9:59 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أسراب الغروب

نشر فى : الأربعاء 28 يوليه 2010 - 10:25 ص | آخر تحديث : الأربعاء 28 يوليه 2010 - 10:25 ص

 جمعتنا شرفة تطل على وادٍ تخترقه جداول. ووراء الوادى بحر يمتد إلى بعيد نحو شمس تكاد تغرب. كنت السائل وكان المجيب ضيفى. سألت عن المكان فأفاض فى سرد تاريخه. ومن تاريخ المكان دلف إلى جماله ليكشف عن بعض أسرار الطبيعة، وخص بالذكر الفكرة الشائعة أن الطبيعة لا تكرر نفسها إلا نادرا، لتبدو دائما أمام عشاقها جذابة ومرغوبة. امتدحت بدورى جغرافية المكان وبرودته فى الصيف كما فى الشتاء، علقت على الشجر المحيط بنا والسكون الذى يلفنا.

 

حتى العصافير التى تأتى إلى الشجرة الملاصقة للشرفة، لا تمكث سوى دقائق وتغادر لتتركنى أسأل لماذا جاءت، ولماذا لا تبقى إلا دقائق معدودة، ولماذا اختارت شجرة دون غيرها فى غابة تمتد من خلفى إلى أبعد من مدى يصل إليه بصرى؟
عرفت منه ما لم أكن أعرف. عرفت أن الشجرة محل اهتمامى تنتمى إلى فصيلة شجر الحور التى ورد ذكرها فى عديد من الروايات الدينية والتاريخية، يصل طولها أحيانا إلى 30 أو 40 متر أوراقها صغيرة وطباعها مميزة، فهى تلمع مع الشمس وتتلون بلون الفضة فى الصباح وبلون الذهب عند الغروب، وتهتز متلألئة مع نفحات النسيم تجذبك بلمعانها وأنغامها فتتأمل بانبهار وتنصت فى خشوع.

 


شدتنى دائما لحظات الغروب حتى قبل أن أعرف قصة هذه الشجرة وعصافيرها. كنت كالعادة مواظبا على الاستمتاع بالغروب حين لاحظت أن عصافير المنطقة تتجمع من نقاط بعيدة، أسراب تأتى من الشرق وأخرى تصعد من الوادى متجهة جميعها نحو الشجرة المتلألئة أوراقها بلون الذهب. أراها قبل كل غروب تأتى وتغريدها يسبقها ليعلن عن قدومها وسرعان ما تندس بين الأوراق وبين الأغصان. يخفت التغريد ويعلو الهمس ليصل عندى محمولا على هبات نسيم رقيقة وناعمة. تمر دقائق، ثلاث أو أربع على الأكثر، وفجأة تطير العصافير، عصفورا وراء عصفور لا أسراب ولا جماعات، كل طير بمفرده وكل فى اتجاه، وتعود الشجرة خالية من الطيور بينما الذهب على أوراقها يخبو شيئا فشيئا حتى يختفى كليا مع الشمس التى غطست فى البحر.
شرح صديقى وأفاض. فهمت أن عصافير المنطقة تلتقى فى مثل هذا الوقت، أى قبل الغروب، عند هذه الشجرة. تأتى من كل مكان لتقضى مع بعضها البعض دقائق قبل أن يحل موعد عودتها لتبيت مع أزواجها وأفراخها فى عششها المنصوبة فوق أغصان أشد عودا من أغصان شجرة الحور وفى حماية أوراق أعرض وأقوى. أفاض ولكنه لم يقدم تفسيرا مقنعا للظاهرة.

 



وظفت الخيال. كان لا بد من أن أجد تفسيرا يقنعنى. طيور منهكة تقطع مشوار عودتها من رحلة شاقة بدأت عند الفجر لتقضى دقائق معدودة مع الرفاق والرفيقات. وجدت التفسير. هذه العصافير تجتمع عند هذه الشجرة المشهورة منذ القدم برومانسيتها وجمالها وأنغامها الناعمة ليحكى كل طير لرفيق أو رفيقة عن عناء اليوم وعن حصاده وليجد من يمسح دمعته أو يخفف لوعته، وبعدها يطير إلى عشه سعيدا ومتفائلا ومتشوقا حيث يكون فى انتظاره عائلة متلهفة. يدخل إليها بعد أن يكون قد تخفف من مشاق اليوم وأفرغ شكاويه ومعاناته بعيدا عن عشه واستعاد رشاقته وثقته بنفسه.

 


تذكرت حكايات بيوت الجيشا فى اليابان حيث يقضى الرجال سويعات المساء يخلعون فيها متاعب النهار ومشاقه ويستمعون إلى خفيف الغناء ويشاهدون روائع الرقص التقليدى ويستمتعون بلمسات تدليك صحى يعودون بعدها إلى عائلاتهم سعداء ومتشوقين.

 


تذكرت أيضا حكايات المقاهى الانجليزية الشهيرة التى تنتشر بخاصة فى حى «السيتى» فى لندن، هناك وفى ساعة الغروب تمتلئ هذه المقاهى بنساء ورجال من العاملين فى مهنة المال، بينهم مديرو مصارف وعملاء تأمين وسكرتيرات ومحللو ومحللات، يشربون الجعة مثنى وثلاث ويتبادلون الحديث عن تجارب النهار ومشاق العمل ومشكلاته. وبعد ساعة، لا أكثر، ينفض السامر ويغادر الزبائن منفردين، كل يسير فى اتجاه قاصدا بيته وعائلته، يعود إليهما سعيدا ومنشرحا، بعد أن تخلص فى المقهى من شكاوى العمل ومعاناته واستعد للاستمتاع بالعائلة وإمتاعها.

جميل مطر كاتب ومحلل سياسي