حدثان ارتبطا بوزيرة الخارجية الأمريكية هيلارى كلينتون عكسا سرعة أحداث الثورة وحدة المنحنيات التى سلكتها وما سببته من ارتباك فى صنع القرار فى واشنطن بدءا من رحلة الثمانية عشر يوما من الثورة وصولا إلى انتخاب رئيس مصرى جديد، وبدء حقبة جديدة غير واضحة المعالم فى علاقات الدولتين.
الحدث الأول يوم 25 يناير 2011 وبالتحديد قرب الساعة العاشرة مساء بتوقيت القاهرة، حيث جمع كلينتون مؤتمر صحفى مع نظيرتها الإسبانية السيدة ترينيداد خيمينز فى مقر وزارة الخارجية الأمريكية أكدت فيه كلينتون على استقرار نظام حكم الرئيس السابق حسنى مبارك، الذى وصفته بأنه يبحث عن طرق للتجاوب مع طلبات المتظاهرين. وردت كلينتون على سؤال حول إذا ما كانت واشنطن تشعر بقلق على استقرار الحكومة المصرية قائلة «نحن نعرف أن المظاهرات التى اندلعت لم تقتصر على القاهرة فقط، بل فى مناطق أخرى كثيرة، ونحن نتابعها عن قرب. نحن ندعم الحق فى التجمع، وحرية الرأى لكل المصريين، ونطالب الجميع الحفاظ على ضبط النفس، وعدم اللجوء للعنف. إلا أن تقديراتنا تؤكد أن الحكومة المصرية مستقرة، وأنها تبحث عن طرق للتجاوب مع الاحتياجات المشروعة للشعب المصرى، ومصالحه».
والحدث الثانى يوم 14 يوليو 2012 إذ اندلعت مظاهرات غاضبة خارج مقر إقامة كلينتون بفندق فورسيزون بحى جاردن سيتى، أثناء زيارتها الأولى للقاهرة عقب فوز الدكتور محمد مرسى بأول انتخابات رئاسية حرة فى التاريخ المصرى. وأعلن المتظاهرون رفضهم زيارة كلينتون لمصر، ووجهت شتائم للوزيرة وللولايات المتحدة على ما يعتقدون أنه دعم أمريكى للإخوان المسلمين، وما يتخيلون من دور لعبته واشنطن فى فرض محمد مرسى رئيسا لمصر. وتطور الغضب لدرجة أن ألقى على موكبها البيض والطماطم فى اليوم التالى بمحافظة الإسكندرية.
والواقع أن ثورة 25 يناير مثلت صدمة حقيقية لأركان الحكم فى واشنطن، وذلك لفجائية هذه الثورة وعدم القدرة على توقعها بهذه السرعة، وعدم تخيل نجاحها فى القضاء على نظام بوليسى محنك، إضافة إلى عدم رغبتهم، ناهيك عن استعدادهم، لأى تغيير حقيقى فى منظومة الحكم فى مصر.
لم يكن قلق باراك أوباما وتخوف واشنطن على مستقبل الحكم فى مصر وليد اللحظة، فقد شهدت واشنطن الكثير من الفعاليات التى كانت تشير إلى وضوح سيناريو خلافة السيد جمال مبارك لوالده، وهو ما لم يكن لتعترض عليه واشنطن طالما أنه تم بطرق قانونية. إلا أن مزاج واشنطن السياسى تغير وسادها قلق حقيقى على مستقبل الاستقرار السياسى بعد عودة الدكتور محمد البرادعى لمصر فى نهايات عام 2010، وما شكله من تهديد حقيقى لفكرة توريث حكم مصر.
وأثناء أيام الثورة الثمانية عشرة، انقسم فريق إدارة أزمة مصر داخل الإدارة الأمريكية الذى كان يبحث المستجدات لحظة بلحظة إلى فريقين ميز بينهما إضافة إلى المواقف المتعارضة فجوة جيلية واضحة. الفريق الأصغر سنا تكون بصورة رئيسية من دينيس ماكدو من مواليد 1969 (من حملة أوباما الانتخابية) وهو نائب مستشار الأمن القومى الأمريكى. والسيدة سامنتا باور من مواليد 1970، وهى أكاديمية بارزة بجامعه هارفارد ولها كتب هامة عن جرائم الإبادة الجماعية، وعملت مستشارة لأوباما لشئون حقوق الإنسان. والأكاديمى البارز فى قضايا التحول الديمقراطى مايكل ماكفولن وهو من مواليد 1963، ويشغل حاليا منصب السفير الأمريكى فى موسكو، وأخيرا أصغرهم جميعا بن رودس من مواليد 1978 وهو خريج جامعة جورج تاون، ويعمل مستشارا للشئون الدولية فى مجلس الأمن القومى.
الفريق الأكبر عمرا كان أكثر محافظة فى تفكيره نتيجة سنوات خدمتهم الطويلة داخل أروقة الحكومة الأمريكية وتأثرهم بالتقاليد البيروقراطية المحافظة فى الشأن السياسى. ومثل كل من وزيرة الخارجية هيلارى كلينتون وهى من مواليد 1947، إضافة لوزير الدفاع روبرت جيتس، وهو من مواليد 1943، ونائب الرئيس الأمريكى جوزيف بيدن المولود عام 1942 ومستشار الأمن القومى توماس دونيلون المولود عام 1955، ودينيس روس مسئول ملف الشرق الأوسط بمجلس الأمن القومى وهو من مواليد 1948، أبرز وجوه هذا الفريق.
رأى فريق الصغار أن ما يحدث هو ثورة حقيقية وطالبوا بدعم شبابها، أما فريق العجائز فقد طالب بالتلكؤ، وعدم التخلى عن الحليف حسنى مبارك. إلا أن كلا الفريقين اتفقا على شىء واحد وهو أن عملية الانتقال الديمقراطى ليست أمرا سهلا وستأخذ سنوات عديدة، وسيتخللها الكثير من الفوضى. وبدأ المستشارون فى طرح العديد من الأسئلة التى يجب أن يطرحوا إجابات لها على الرئيس ومن تلك الأسئلة: حال تطور الأمر فى مصر ماذا سيكون رد فعل الإدارة الأمريكية إذا ما فتحت قوات الجيش النار على المتظاهرين؟ وهل ينبغى لواشنطن أن تتعامل مع من يخرج فائزا مما يحدث فى مصر أيا ما كان؟ وكيف يمكن لواشنطن أن تتعامل مع قوى إسلامية قد تناصب إسرائيل العداء أو لا تعترف بحقوق النساء والأقباط إذا ما فازت فى انتخابات حرة؟ هل تستمر واشنطن فى تقديم مساعدات عسكرية واقتصادية لمصر حتى لو جاء رئيس مصرى يهدد اتفاقية السلام مع إسرائيل؟
وسيطر على فريق مستشارى أوباما خبرتان تاريخيتان أليمتان بالنسبة لواشنطن. الثورة الإيرانية التى اندلعت عام 1979 ضد أحد أهم حلفاء واشنطن فى الشرق الأوسط، الشاه محمد رضا بهلوى، والتى انتهت بنجاح الثورة وتأسيس دولة دينية تحت زعامة آية الله الخومينى، وما تبع ذلك من معاداة الولايات المتحدة والغرب لهذه الدولة حتى يومنا هذا. النموذج الثانى كان نجاح تنظيم حماس فى الفوز بالانتخابات الفلسطينية عام 2006، وهى التجربة الثانية التى لم تغب عن ذهن خبراء ومسئولى مجلس الأمن القومى المعاون للرئيس الأمريكى.
كان صوت كلينتون هو الأعلى بين أفراد فريقها المحافظ تحذيرا من أن البديل الوحيد لنظام مبارك هو حكم الإسلاميين. وكانت الوزيرة الأمريكية وغيرها من مسئولى الإدارة يقدرون صدق ودقة الرئيس السابق حسنى مبارك فى تحذيره المتكرر للإدارات الأمريكية من أن البديل الوحيد لنظامه غير الديمقراطى هو حكم القوى الإسلامية بقيادة جماعة الإخوان المسلمين. وكان اختيار غالبية الشعب المصرى لرئيس إسلامى هو اللاعب الرئيسى فى محددات السياسة الأمريكية.
سخر القدر من كلينتون التى دعمت نظام مبارك فى أول أيام الثورة مخافة صعود الإسلاميين، وأوصلها لتتلقى بيضا وطماطم بعد اتهامها بدعم أعداء مبارك من الإسلاميين.