تبشر بيانات رسمية من واشنطن بتقليص الوجود العسكرى الأمريكى فى الشرق الأوسط. هذا التقليص سيشمل أيضا الدفاعات الجوية المنصوبة فى السعودية التى تواجه أيضا مشكلة الحوثيين فى اليمن. هذا الخبر ليس جديدا. فتقليص الوجود العسكرى الأمريكى كان هدفا وضعته لنفسها أيضا إدارة ترامب عندما أرادت تحويل مركز الثقل الاستراتيجى للولايات المتحدة إلى قوة اقتصادية عظمى فى مواجهة التحدى الصينى. الرئيس بايدن يدرك سلّم أولويات الولايات المتحدة الذى يركز أولا على الصين، وبصورة أقل على روسيا والشرق الأوسط.
هذا هو سبب عدم الاهتمام بالشرق الأوسط الذى تظهره الإدارة الأمريكية حاليا، وهذا هو سبب عدم إظهار بايدن حتى الآن حماسة استثنائية لمحاكاة الولاية الأولى لإدارة أوباما والتدخل فى مستنقع النزاع الإسرائيلى ــ الفلسطينى المعقد. لهذا السبب تراجع محمود عباس، الذى وضع توقعات مبالغا فيها واعتمد على التقدميين فى واشنطن، عن عملية الانتخابات العامة فى المناطق بعد أن أدرك أن الإدارة الديمقراطية ليست متحمسة لها.
فى هذه المرحلة ليس واضحا ما إذا كان سيستمر توجّه عدم التدخل فى المسألة الفلسطينية. من المحتمل جدا أن يحفّز التغيير السياسى فى إسرائيل إدارة بايدن على المحاولة مجددا فيما فشلت فيه أكثر من مرة. لكن على الرغم من أنه من الواضح أن تقليص الوجود الأمريكى فى الشرق الأوسط كان هدفا مشتركا بين إدارتى ترامب وبايدن، إلاّ إن هناك فارقا كبيرا بينهما بشأن كل ما له علاقة بإيجاد ظروف استراتيجية تسمح بالانسحاب الأمريكى. بالنسبة إلى ترامب، تقليص الوجود العسكرى مرتبط بممارسة ضغط كبير على إيران لدفعها إلى طاولة المفاوضات، بينما هى ضعيفة ومستعدة لقبول اتفاق أفضل بكثير من الاتفاق النووى لسنة 2015. فى المقابل عمل ترامب على إيجاد توازن استراتيجى إقليمى جديد يعتمد على ائتلاف بين إسرائيل ودول الخليج اتخذ صورة اتفاقات أبراهام. كل ذلك من خلال وعود بصفقات سلاح متقدم مع الدول المشاركة فى الائتلاف لإيجاد ما يمكن تسميته «جدار الحديد» لـ«معسكر العقول» ــ الدول الغنية البراجماتية التى تكره المخاطرة – ضد «معسكر القلوب» المتمثل فى «عناصر المقاومة» العنيفين والباحثين عن الخطر.
فى المقابل القصة مع إدارة بايدن مختلفة. الولايات المتحدة تريد الانسحاب بسرعة من المنطقة والطريق إلى ذلك لا تمر بإخضاع إيران، بل عن طريق اتفاق يسمح بتحويلها إلى قوة إقليمية عظمى، سواء من ناحية إمكان وصولها إلى سلاح نووى، أو من ناحية رفع الحصار الاقتصادى المفروض عليها. مع الاستعداد لقبول اتفاق ضعيف ومفاوضات مع طهران تزعزع الولايات المتحدة المنطق الاستراتيجى فى اتفاقات أبراهام و«جدار الحديد» الإسرائيلى ــ الخليجى ضد إيران. المؤشرات إلى ذلك يمكن رؤيتها بالغزل الدائر بين جزء من دول الخليج وبين طهران، والذى يستند إلى إدراك تغيّر التوجه الأمريكى تحت إدارة بايدن.
هذه ليست أخبارا جيدة بالنسبة إلى إسرائيل. عقد من البناء المستمر لمكانتها الاستراتيجية، جزء منه تحت غطاء من السرية، يواجه تحديا. يبدو أن إسرائيل تقف أمام مسار معاكس، أو على الأقل أمام تراجُع التوجهات الإيجابية التى شهدتها الأعوام الأخيرة. إذا جرى ذلك فمن المحتمل أن نواجه فى المستقبل بوادر تعاظُم استراتيجى إيرانى فى ظل تآكل عميق للتدخل الأمريكى فى المنطقة. هذا المسار يخلق ظروفا ملائمة لنمو «معسكر القلوب» ويضع فى مواجهة «معسكر العقول» صعوبات جوهرية فى مواجهة الواقع الشرق الأوسطى الذى سيكون أكثر تعقيدا وقابلية للانفجار كما دلت على ذلك حوادث الحرب الأخيرة فى قطاع غزة.