فى كل رمضان، تثور حمى الهجوم على الدعاة الجدد من قبل بعض الناقدين فى مواجهة آخرين يدافعون عنهم كجزء من ماكينة الحرب الأهلية الثقافية التى تعيشها مصر. وقد يكون من المفيد التعامل مع هذه الظاهرة بميزان أقل ميلا إلى هؤلاء أو أولئك، فباستقراء أنماط تفاعل المتعرضين لهذا الخطاب يتبين أن هؤلاء الدعاة قد ساهموا فى علاج ثلاثة مشاكل لكنهم فى المقابل كان خطابهم أشبه بالدواء الذى له ثلاثة أعراض جانبية. ففيما يتعلق بالنجاحات فهناك:
أولا: تجديد الهوية العربية ــ الإسلامية عند الشباب: لقد نجح الدعاة الجدد لحد بعيد فى إعادة الاعتبار للهوية العربية الإسلامية عند قطاع كبير من الشباب فى زمن من السهل للغاية أن يفقد فيه الإنسان العربى أو المسلم اعتزازه بهُويته. فهذا زمن يندر أن يجد فيه العربى المسلم ما يفتخر به من إنجازات معاصرة؛ فمن هزائم عسكرية وخلافات سياسية وإهانة للمقدسات فضلا عن مئات الأنواع من السلع والمنتجات الأجنبية التى نستهلكها ولم نسهم فى إنتاجها، يجد الإنسان نفسه على استعداد ذهنى لأن يكفر بهُويته بل وأن يُحمّلها مسئولية تخلفه. ولكن لا شك أن الخطاب الدينى الجديد قد أبلى بلاء حسنا، ولو جزئيا، فى هذا المقام.
ثانيا: إعادة الاعتبار للشأن العام فى عقل قطاع واسع من الشباب المسلم: لقد نجح الدعاة الجدد لحد بعيد فى التأكيد على الوظيفة الاجتماعية للدين مثل مشاكل الأسرة وتربية الأولاد ومواجهة التدخين والمخدرات ودعم ثقافة التطوع فى مشروعات خيرية، وهى كلها أفكار تؤكد أن الدين ليس مجرد دروشة وشعائر بلا دور فى إصلاح شئون المجتمع. إن انخراط الشباب فى التطوع والمشاركة فى العمل العام هو واحد من أهم آليات تحويل رأس المال البشرى إلى رأسمال اجتماعى يقوم على التعاون والتكاتف «كتفا بكتف» من أجل تحقيق أهداف مشتركة، بل هو أداة مهمة لتغيير الصورة النمطية بأن مصر بقرة حلوب، الأشطر يحلبها أكثر.
ثالثا: كشف سوءات مؤسسات التنشئة الأخرى فى المجتمع: وقد نجح خطاب الدعاة الجدد فى كشف قصور مؤسسات التنشئة الاجتماعية الأخرى سواء فى البيت أو المدرسة أو الجامعة أو المسجد فى الإجابة عن الأسئلة الأخلاقية والدينية التى يحتاجها الشباب المسلم. ونجاح هذا الخطاب يعنى أن الأسرة والمدرسين وأساتذة الجامعات والمشايخ التقليديين قد تخلوا عن أدوارهم فى التربية والقدوة وبناء الشخصية العربية المسلمة، فكان الدور على دعاة الفضائيات أن يملأوا الفراغ الضخم الذى خلقته مؤسسات التنشئة المذكورة. وهو ما لا يعابون عليه بالضرورة. فهم أقرب إلى مدرس ثانوى شاطر يخاطب طلبة جامعيين كسالى لا يريدون أن يقرأوا أو أن يتثقفوا إنما يريدون المعلومة السهلة الجاهزة بنفس منطق الدروس الخصوصية وتوقعات ما قبل الامتحانات.
******
لكن هذا الخطاب الجديد بنجاحه الجزئى هذا، خلق ثلاث مشاكل أقرب إلى أعراض جانبية.
أولا: مشكلة الخطاب الدينى الانتقائى: فهو أولا منهج غير علمى فى التعامل مع الماضى. فالتاريخ له مناهجه المنضبطة فى فهم حوادثه وربطها واستخلاص العبر والفوائد منها، لكن خطاب معظم الدعاة الجدد لا يستخدم منهجا علميا على الإطلاق بل العكس فهو خطاب انتقائى بما يتناسب مع الغرض المطلوب منه وهو رفع إحساس المستمع بالعزة والفخر بدينه وهو ما يأتى على حساب العقلية الناقدة التى نحن بحاجة إليها بشدة؛ فالماضى منطقة آمنة لمن يلجأ إليها دون أن يلتزم المنهج العلمى فى التعامل معه. فعند الحديث عن التراث، يتجه الكثير من الدعاة الجدد إلى خلق صورة مثالية عن الأقدمين على نحو يجعلنا نفقد القدرة على تمييز مساحات هائلة من الأخطاء والمشاكل التى انعكست فى النهاية سلبا فى شكل عقود عجاف عاشتها الأمة الإسلامية كان فيها الكثير من الحروب والمؤامرات الداخلية والاستبداد والظلم الاجتماعى والسياسى بما أفضى إلى هزائم وانقسامات ومظالم لا يمكن تبرئة السابقين من مسئوليتهم عنها. وعلى هذا يكون نتاج هذا الخطاب مفارقة الاعتزاز بالماضى وإعادة إنتاج العقلية المستعدة لارتكاب كل أخطائه، لأن هذا الخطاب ليس أمينا فى نقل الماضى واستيعاب أخطاء أجدادنا فيه بما يجعل من الصعب الإجابة عن سؤال: «إذا كنا متدينين، فلماذا متخلفون؟».
ثانيا: مشكلة التدين النافى للعلم والفلسفة: لا أتصور أن بناء ضخما يمكن أن يشيد بالرمل دون الحديد والأسمنت، ولا أتصور تقدما أو نهضة يمكن أن تنبنى على مظاهر التدين وشكلياته دون أن نلتزم بروح الدين التى تضع علينا مسئولية العلم والفكر. ولكن ما بدا واضحا أن الخطاب الدينى الجديد لم يقم بما يكفى للتأكيد على أهميتهما. بل بدا الأمر كما لو أن الخطاب الدينى التبسيطى هو استمرار لنفس منطق الدروس الخصوصية فى المنزل بدلا من المراجع العلمية فى المكتبة، والمذكرات وتوقعات الامتحان بدلا من السعى والاجتهاد من أجل التميز والتفوق، فأصبح التدين عند الكثير من الشباب أداة تعويض عن الإخفاق التعليمى والاطلاع والثقافة العامة، فى حين أن الدين نفسه هو الذى يطالبنا بأن نتعلم من تجارب الآخرين وأن نستفيد من خبراتهم. فلنقرأ فى الدين وفى قصص الصحابة العظماء، لكننا مطالبون بأن نعرف كيف نجحت إسرائيل ولماذا أخفقنا، لماذا إنتاجية العامل فى الغرب والشرق أعلى منها فى بلداننا. إن التدين غير المفضى إلى العلم والفلسفة، يخلق شخصية فيها الكثير من الحيرة، فبدون العلم والفلسفة فكأننا نقول للعالم: «أنا عريان، لكن أجدادى هم الذين اخترعوا الملابس»، «أنا لا أقرأ، لكن أجدادى ألفوا مئات الكتب فى كل المجالات»، «أنا أعيش فى مجتمع مستبد، لكن انظروا كيف يهاجم القرآن كل متكبر جبار».
ثالثا: مشكلة الخطاب الدينى منزوع السياسة: مفيد للغاية أن يعيد الخطاب الدينى الجديد اهتمام الناس بقضايا الأمة، لكن أغلب مشاكل هذه الأمة لها بعد سياسى دون أن يعنى ذلك التحزب أو الانتماء لتنظيم سياسى بعينه. فإذا كان بعض الدعاة حريصين على التأكيد على أن سرقة الدش حرام، فماذا عن سرقة الانتخابات والعزوف عن المشاركة فيها؟ فكم من هؤلاء المتدينين، لديهم بطاقة انتخابية ويذهبون لاختيار من يحكمهم أو يمثلهم فى البرلمانات. لا يتوقع عاقل من الدعاة أن يطلبوا من الشباب أن يعطوا أصواتهم فى اتجاه دون آخر، ولكن السكوت عن واجب المسلم السياسى يهمشه، ولا أعرف نهضة حقيقية يمكن أن تتحقق فى ظل غيبوبة سياسية كالتى نعيشها الآن ويساهم فيها الخطاب الدينى بباع طويل بتركيزه على أمور العلم بها لا ينفع والجهل بها لا يضر. لكن يبدو أنهم اختاروا المنطقة الآمنة بعيدا عن بطش الساسة.
فمادام الخطاب الدينى الجديد قد «سرق الجو» من أصحاب الرأى والفكر والعلم فى المجالات الأخرى، فعلى الدعاة أن يعلموا أن مسئوليتهم كبيرة وأنهم محاسبون ليس فقط على ما يقولون ولكن كذلك على ما يتجاهلون. ومن هنا فإن المنطق يقتضى بأن ننصحهم وأن نساعدهم على أن يتجنبوا السلبيات التى وقعوا فيها وأن يعظموا من عوائد ما أنجزوه حتى الآن. ورغما عن أننى شخصيا لا أطيق الاستماع لسطحية خطاب بعضهم لأكثر من دقائق معدودة، لكننى أدافع عن حقهم فى توصيل رسالتهم حتى وإن اختلفت معها. ولا تدرى لعلّ اللهَ يُحدثُ بعد ذلك أمرا.