نشرت صحيفة الشرق الأوسط اللندنية مقالا للكاتبة «سوسن الأبطح» نعرض منه ما يلى:
العالم مدين للمخترع البريطانى تيم بيرنرز لى، بالشبكة العنكبوتية التى غيرت حياتنا وبدلت مفاهيمنا، ومع ذلك لا نذكره، ولا نردد اسمه، ولم تَمُن عليه «نوبل» بجائزتها، مع أنها أعطتها لمن كانوا أدنى منه براعة وتأثيرا، وأقل ضميرا وحرصا على إنسانية اختراعاتهم أيضا. احتفى قليلون، هذا العام، وبعض الاختصاصيين فقط، بإنجاز بيرنرز لى الرائع الذى مر عليه ثلاثون سنة، خلالها تغير مجرى حياتنا، وتبدلت ممارساتنا اليومية، وعاداتنا المهنية. الرجل لم يخترع الإنترنت التى كانت موجودة ومستخدمة عسكريا على نطاق ضيق من قبل الأمريكيين منذ نهاية ستينيات القرن الماضى، لكنه عام 1989 هو الذى جعل للإنترنت شبكة عنكبوتية عبر القارات، تصل إلى كل بيت، وشرع لها أبوابا ومواقع ومداخل، وأرادها مجانية فى متناولنا جميعا، من دون مقابل. وهو ارتأى ذلك قصدا وإدراكا وفهما لما يمكن أن تقدمه من خدمات وتسهله من معاملات.
لكن بعد ثلاثة عقود يراجع بيرنرز لى، الذى لم يكن مخترعا وحيدا بالطبع، لكنه الأبرز والأهم، حساباته محبطا من بعض الاستخدامات الشائنة التى لم تخطر له على بال. غالبا ما يفرح العلماء باختراعاتهم كالأطفال، ويصدمون وهم يرون الآخرين يدجنونها كالشياطين. ولا يزال بيرنرز لى يؤمن بأن ثمة ما يمكن فعله، للحد من الأذى المتعمد الذى يمارسه طغاة الشبكة، والاستخدامات المريعة مثل بث الأخبار المضللة عمدا، وغسل العقول عند كل مفصل سياسى، كما فى استغلال البيانات الشخصية بأسوأ السبل وأكثرها امتهانا للفرد واستخفافا بخصوصياته. يصعق وهو يرى كيف تم التلاعب بنتائج انتخابات فى أكثر من بلد، وحصل التأثير على الناخبين، فى مواضع خطيرة، كما فى استفتاء خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى.
لا يبدو أن ألفريد نوبل كان متأثرا كثيرا لأن اختراعه للديناميت خرج عن وظيفة تفجير الصخور وشق الطرقات وحفر الآبار، واستخدم فى القتل.
كان صناعيا وتاجرا، واستمر فى عمله حتى بعد أن قضى شقيقه الأصغر إميل بتفجير وقع بالخطأ، أطاح بالسقيفة على رأسه ومعه آخرون. وأتت الجائزة العالمية التى أوصى بها، بمثابة محاولة تكفير عن ذنب لم يتوقف خلال حياته عن ارتكابه أو حارب من أجل تصحيحه، وهى أيضا تشبه محاولة تبييض لصورة من الصعب تلميعها.
لكن بيرنرز لى من صِنف إنسانى مختلف تماما. وهو بقى يراقب، من خلال المواقع التى يحتلها أكاديميا وبحثيا، خلال السنوات الماضية بقلق شديد الانحرافات التى تتعرض لها شبكته الأثيرة، ويسعى لوضع أسس تضبط التفلت، ولا يزال مؤمنا بأن السنوات الثلاثين المقبلة لا يمكن أن تكون محكومة بفوضى الفترة التى سبقتها. سعى عام 2018 لعقد نوع من ميثاق يضبط حقوق الأفراد والحكومات والشركات، ويضع حدا للتجاوزات، لكنه سرعان ما أدرك أن هذا النوع من القوانين سيبقى نظريا؛ لأنه لا يلائم مزاج الأطراف الأكثر قوة واستفادة من الوضع الحالى. وهى جهات ستفعل المستحيل لتبقى ميثاقه حبرا على ورق.
حاليا يعمل هذا العالم الفيزيائى؛ الذى كان يفترض أن يكون قد بدأ تقاعده واستسلم لشىء من الراحة بعد كل ما أنجزه إلا إن شعوره بالخطر يؤرقه، مع جامعة ماساتشوستس على مشروع تقنى هذه المرة، وليس إنشائيا أو حقوقيا كما المرة السابقة، وقدم الحل الذى لا تريد أن تسمع به الشركات التكنولوجية العملاقة، ويقضى بأن يتم الفصل بين البيانات الشخصية والخدمات الأخرى؛ بحيث يمكن للبيانات أن تبقى محفوظة لدينا، أو على سحب افتراضية مؤمنة، أو فى مكان لا تمتد إليه يد الشركة المستغلة لتبيعها أو توظفها أو تجرى إحصاءاتها عليها كيفما شاءت. الخبر الجميل أن مشروع «سوليد» هذا الذى يقوده بيرنرز لى بالنسبة له ممكن جدا تقنيا، وتطبيقه سهل ويمكن أن يوضع محل التنفيذ من دون عراقيل، وقد أنجز بالفعل وعرض على من يعنيهم الأمر.
لكن الخبر السيئ أن هذا النوع من القيود سيقطع أرزاقا، ويقلص ثروات جبابرة العالم، وحكام الكوكب الجدد، وهو ما سيجعل رغبات مبتكر الشبكة والحالم بحريتها وحياديتها وموضوعيتها، لفترة طويلة من الزمن، ضربا من الأحلام. والسبب هو نفسه كما فى الدول الديمقراطية التى تنحدر إلى منزلقات توتاليتارية ذات أقنعة مبهرجة، لا بسبب دهاء حكامها، وإنما بفضل لا مبالاة مواطنيها ومحدودية وعيهم. فالمواطن الكونى لا يزال سعيدا بأفراحه التواصلية، مبتهجا بعلاقاته الافتراضية الممتدة فى الكوكب، ولا يبدى كبير اعتراض على إمساك الشركات الكبرى بمفاصل حياته، وتفاصيل مزاجه، وحتى أرقامه المالية والبنكية. ولم يحدث حتى اللحظة أن اتفقت مجموعة بشرية وازنة على مقاطعة، ولو لساعات، لهذه الشركة أو تلك للمطالبة بحقها فى حماية خصوصيتها.
هذه اللامبالاة الجارفة من قبل المستخدمين تصعب مهمة عالم الفيزياء الذى يتفانى من أجل ألا يبقى اختراعه من بعده مسبة له، وعارا عليه. وكأنما مخترع الشبكة ومبتكرها الحريص على مسارها، والأدرى بأحوالها، يصيح فى وادٍ والمستخدمون المخدوعون يعيشون فى وادٍ آخر.
وعلى أى حال؛ من الآن رفضت شركات كبرى كثيرة اقتراح «أبو الويب» وعلى رأسها «جوجل» التى عدت أن تطبيق مشروعه فصل البيانات وحمايتها الكلية، سيكون خطيرا للغاية، لأن استهداف المعلنين للأشخاص المعنيين بالإعلان سيصبح مستحيلا. لهذا تعد «جوجل» ومعها أخواتها ممن رفضن المشروع، أنها اتخذت ما يكفى من الإجراءات لحماية خصوصية العباد، ولا تستطيع فعل أكثر من ذلك دون أن تخسر إعلاناتها وخدمات أخرى بنتها على ما منحناها من معلوماتنا الأكثر حميمية.
لله درك يا بيرنرز لى؛ لقد وضعتنا فى ورطة، نرفض نحن أنفسنا أن نساعدك فى إخراجنا منها.