كان يقال لنا فى بعض محاضرات علم السياسة إن السلطة السياسية غالبا ما تتعلل بالتغيير والإصلاح لتفرض على الشعوب نسيان موروثات وشخصيات وعهود.
لهذا السبب كثيرا ما ارتبط نضال الشعوب ضد هيمنة السلطة أو استبدادها بتمردها على محاولات فرض النسيان. عادة الناس أنها ترفض، وبعناد شديد أحيانا، التخلى عن ماضيها. وحين يفرض عليها النسيان يبقى حنينها إلى هذا الماضى كله أو بعضه مشتعلا لا ينطفئ. السلطة من جانبها، وبخاصة إذا رفعت شعار الحداثة أو التغيير، تكره الماضى، أو على الأقل تفضل لو تجاهله الناس، وقد تضطر أحيانا إلى استخدام العنف لفرض النسيان على تجارب أو مراحل معينة من الماضى تعتبرها عقبات فى طريق التغيير، أو تعتقد أنها تعطل تحقيق مصالحها.
•••
يقول صديق مهتم بقضايا مكافحة النسيان، إن التاريخ شاهد على أن السلطة الجديدة، أيا كانت توجهها السياسى والاجتماعى، تبدأ عهدها بمحاولة تغيير بعض أمزجة الشعب. تلجأ أولاً إلى تكليف فنانين بتأليف وتلحين أغانٍ وطنية أو اجتماعية تختلف عن الأغانى السائدة التى خلفتها العهود السابقة، وتكلف آخرين بإنتاج وتصوير أفلام سينمائية ومسلسلات تحكى قصصا تعتم بها على سير من الماضى. هذه السلطة قد يعن لها أن تكلف الخياطين بتفصيل أزياء تختلف عن الأزياء التى اشتهر بها رجال ونساء النظام السابق. يأمل هؤلاء الحكام أن «ينسى» الشعب تقاليد وأثرياء وسلوكيات الطبقة التى انزاحت من السلطة، ويعود على ما يرتديه أعضاء النخبة الجديدة من ملابس وما يمارسونه من سلوكيات وما يرفعون من شعارات. كان ظن الحكام أنه إذا اهتزت صورة الماضى فى ذهن المواطن أصبح فرض الجديد فى نواحٍ اقتصادية واجتماعية أسهل، وأمكن إدخال التغيير المطلوب بسرعة أكبر وتكلفة أقل.
كثيرون من أبناء جيلى لاشك يذكرون البدلة «البوشيرت» التى كان يرتديها أعضاء القيادة السياسية فى مصر، فى معظم سنوات حكم ثورة يوليو ١٩٥٢، ولكنهم، يذكرون أيضا بدون شك، أن البوشيرت، زى السلطة، انتهى العمل به بهزيمة يونيو ١٩٦٧، أو بعدها بقليل. أبناء جيلى يذكرون كذلك كيف ان غالبية الشعب المصرى، رفضت ارتداء هذا الزى، وأن مقاومة عنيفة كانت وراء فشل التجربة، على الأقل. إذ بقى معظم الرجال وبخاصة فى الريف والأحياء الشعبية متمسكين بالملابس التقليدية بالرغم من ان اعدادا كبيرة من الشبان التحقوا بالقوات المسلحة وغيرها من أجهزة الأمن وقضوا فترات طويلة نسبيا يرتدون الزى الرسمى، ولكنهم ما أن تركوا الخدمة حتى عادوا إليه. أرادت السلطة التغيير فحاولت فرض النسيان ولكن شاء الشعب، فى غالبيته، التمسك بأزياء الماضى خاصة أنه لم يشعر بأن تغيير الأزياء حقق تغيير فى نمط الحكم والسلطة.
•••
العكس تماما، وبنفس الدرجة من العناد، رأيناه يحدث عندما شاءت قوى الإسلام السياسى مزودة بالمال الخليجى الضخم وترسانة الفتاوى المستوردة، رفض كل مظاهر الحداثة، فقررت فرض النسيان على المرحلة الثورية والتقدمية والعودة بالمجتمع المصرى إلى الماضى، وربما إلى ماضى أبعد جدا، أبعد عن كل ما كان يمكن أن تستوعبه الذاكرة المصرية الراسخة والمجتمع المصرى العميق. عندئذ اضطروا مثل التقميين الذين سبقوهم ان باتوا بالأزياء من خارج مصر، وأقصد من خارج تاريخها وذاكراتها فى محاولة بالغة الرجعية لانتزاع بذور الحداثة من مختلف أبنية الدولة والمجتمع.
•••
شهدت الأيام الأخيرة محاولة من جانب السلطة السياسية القائمة لفرض النسيان على شعب مصر. كنا على امتداد ما نذكر نحتفل بعاشوراء سلطة وشعبا فى وفاق وهدوء وحب وبساطة. لم أشعر فى سنوات طفولتى محمولاً على كتف أمى أو مسحوبا بأيدى خالاتى خلال زياراتهن الموسمية لسيدنا الحسين أن فى الميدان أو الشوارع المتفرعة منه بتوتر أو قلق، ولم أسمع فى سنوات شبابى عن صدام وقع بين الحكومة والناس حول الاحتفال بهذه المناسبة بل إنى متيقن من أننى لا أذكر فى سنوات نضوجى أن حكومة رشيدة أو غير رشيدة تدخلت لتفرض على الشعب نسيان ليلة عاشوراء، ولم أسمع جهة دينية موقرة كانت محل احترامنا تصف شعائر بالأباطيل.. هذه المرة، يبدو أن السلطة قررت سحب اعترافها بعاشوراء تقليدا من تقاليد شعب مصر. كانت تتوقع ان يستجيب الناس فيتوقفوا عن ممارسة طقوس هذا الاحتفال فى بيوتهم ومجتمعاتهم الخاصة. ما حدث كان العكس تماما، إذ بات واضحا، بعد ساعات من إعلان رغبة الحكومة وأجهزتها الإعلامية تجاهل المناسبة، إن الناس قررت أن تبالغ فى الاستعداد والترويج للاحتفال بها.
•••
هذا الموقف من جانب نسبة لا بأس من أهل مصر ليس جديدا، فقد دأب المصريون على مر التاريخ على المبالغة فى اظهار تمسكهم بطقوس معينة امعانا فى تحدى السلطة السياسية، بل لعلنا لاحظنا أن الشعب ما زال رغم الضغوط الخارجية والتحريض الداخلى يحتفل بأعياده التقليدية مثل المولد النبوى ورأس السنة الهجرية وشم النسيم وغيرها من الأعياد الشعبية بحماسة تفوق الحماسة التى يبدونها فى احتفالات السلطة بالأعياد القومية والوطنية. هذه الأعياد الشعبية، وغيرها من الطقوس، هى رسائل تحافظ بها المجتمعات على علاقتها بالماضى، بهذه الرسائل وعن طريقها تربط ماضيها بحاضرها، وتحمى الماضى من «عدوان» السلطة السياسية وتجاوزاتها، وبخاصة محاولاتها فرض التعتيم أو النسيان على بعض جوانب هذا الماضى.
•••
لفتت إحدى الزميلات نظرى إلى ان المصريين عندما يشاركون تطوعا أو بالإجبار فى الاحتفال بأعياد قومية أو وطنية إنما يشاركون بأقل حواسهم. طلبت منى أن أقارن هذه المشاركة بمشاركتهم فى مولد من موالد الأولياء أو فى شم النسيم وعيدى الفطر والأضحى حين يشاركون بكل الحواس. تجدهم يحتضنون بعضهم بعضا ويتبادلون القبلات ويؤدون ما يشبه الرقص الجماعى وينشدون معا أناشيد شعبية موروثة لا تحمل اسم مؤلف أو اسم ملحن. تشعر وأنت بينهم بدفء الضيافة وتتأكد من أن اللمس المتبادل بالأحضان والتمايل الجماعى على إيقاع الطبول واقتسام ما يجود به أهل العدل والخير تأكيدا للرغبة فى الاحتفاظ بالتعايش واستدعاء الماضى حيا وقويا.
•••
حرمان الناس من احتفالاتها الدينية والشعبية أقصر طريق مؤدى إلى الإرهاب الدينى والكراهية والتعصب، تجنبوه إن أردتم صلاح الوطن.