فكرة الاستفتاء على رحيل أو بقاء المجلس العسكرى أمر فى غاية الغرابة والخطورة، ولا أعتقد أن صاحبها يعرف أبجديات الثورات الشعبية أو التحول الديمقراطى.
الجيش أصلا لم يأت باستفتاء شعبى، وإنما بتفويض الرئيس المخلوع سلطاته إلى المجلس العسكرى وقت التنحى على غير ما ينص الدستور. وما شهدته مصر هو ثورة شعبية من أجل الديمقراطية، لم يقف ضدها المجلس الأعلى للقوات المسلحة واختار أن يحميها انسجاما مع التاريخ الوطنى للمؤسسة العسكرية المصرية.
فى معظم حالات الانتقال الديمقراطى لايتم اللجوء إلى الاستفتاءات أو الانتخابات فى المراحل الأولى للانتقال وبعد شهور معدودة من انهيار النظام السابق، لا لتعديل الدستور ولا لاختبار رأيه على بقاء الجيش أو أى شىء آخر. والسبب الأساسى هو أن هذه الشهور الأولى هى وقت بناء أكبر قدر من التوافق بين القوى والنخب السياسية، وبعد التوافق يمكن اللجوء إلى صناديق الانتخابات أو الاستفتاء.
فمعادلة التغيير الثورى التى جُربت تاريخيا فى عشرات الحالات والتى يجب الآن أخذها فى الحسبان تسير على النحو التالى: (1) التكتل الوطنى حول هدف وطنى جامع، (2) ثورة أو تحرك شعبى ضاغط لتحقيق الهدف، (3) إسقاط النظام القديم ونجاح الثوار أو استجابة الحكام القدامى وانتصار الإصلاحيين، (4) توافق قوى الثورة (أو الإصلاح) والنخب السياسية والعقلاء فى كل طرف على معالم المرحلة الانتقالية ومعالم النظام الديمقراطى المنشود من خلال التشاور والمشاركة الحقيقية فى وضع القوانين والإجراءات اللازمة للنظام الجديد وتحديد كل ما يلزم للانتقال كالجدول الزمنى، (5) إجراء الانتخابات المتفق عليها (برلمانية كانت أو رئاسية أو الاثنين) وتنافس القوى والأحزاب السياسية على مقاعد الحكم. حدث هذا فى كثير من دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية وجنوب أفريقيا وبنين والسنغال وجنوب كوريا وإسبانيا وغيرها، وفى تونس أيضا..
●●●
المرحلة الأخيرة هى الاحتكام للشعب، وتأتى بعد التوافق وبعد تحديد معالم الطريق وقوانينه بالتوافق، الذى يعنى رضا أغلبية القوى السياسية وليس كلها. أما خطورة اللجوء للشعب قبل التوافق فتأتى من أن الاحتكام إلى الشعب قبل التوافق ينقل خلافات النخب والأحزاب إلى الشارع، ما يزرع انقسام واستقطاب سياسى حاد من الصعوبة معالجته. ولهذا عارضت منذ فبراير الماضى اللجوء إلى آلية الاستفتاء بعد أسابيع من سقوط رأس النظام، وناديت بتوافق القوى الرئيسية (ولم يكن عددها كبيرا كما اليوم) أولا على المعالم والقوانين قبل إدخال الشعب فى المعادلة.
ما تم عندنا وأوصلنا إلى ما نحن فيه هو أن معادلة التغيير مرت بشكل معكوس ومرتبك: تكتل الجماهير ــ ثورة ــ إسقاط النظام القديم ــ إستفتاء شعبى بدون توافق وطنى وبدون جدول زمنى نهائى ــ تحديد موعد للانتخابات دون تشاور وحوار حقيقى حول القوانين والإجراءات المنظمة ــ تنافس النخب وتكالب الأحزاب على غنائم معركة لم تنته بعد وابتلاء الكثيرين من السياسيين بجرثومة أن ما لا نحصل عليه الآن لن نحصل عليه أبدا.
بجانب تصور الإسلاميين أن مصر على موعد مع أتاتورك جديد سيقضى على الإسلام، وتصور الليبراليين واليساريين أن الإسلاميين سيقيمون دولة ثيوقراطية، واستمرار تخبط وتباطؤ المجلس العسكرى بشأن الجدول الزمنى وفى مسائل الأمن والاقتصاد والطائفية، ثم وصل الأمر إلى استفتاء جديد على بقاء العسكر!
هذه معادلة مدمرة، ولو أراد أحد التخطيط لإجهاض الثورة لما استطاع وضع هذه المعادلة. ولهذا، طبيعى أن تؤدى إلى انفجار شعبى جديد، لم يدبر له الإسلاميون كما يرى البعض، وليس سببه أنصار «لا والدستور أولا» كما يعتقد البعض الآخر. السبب الحقيقى هو الأخطاء التى ارتكبتها كل الأطراف تقريبا: انفراد العسكريين، وانقسام النخب وتكالب الأحزاب على الغنائم، وإعلام لا يتدبر أعلامه مخاطر ما يقولونه ولا يرون حرجا فى تأييد الشىء ونقيضه.
●●●
جماهير الثورة فى الميادين هى وحدها من تستطيع تصحيح هذه المعادلة وقد بدأت، وعلى المجلس العسكرى الاستجابة الحرفية لمطالبهم وتسليم السلطة لحكومة إنقاذ مدنى بصلاحيات كاملة.