مُضاعف الفساد ومُضاعف النمو! - محمد يوسف - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 4:52 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مُضاعف الفساد ومُضاعف النمو!

نشر فى : الثلاثاء 28 نوفمبر 2017 - 10:15 م | آخر تحديث : الأربعاء 29 نوفمبر 2017 - 10:59 ص
شئنا أم أبينا، لابد من الاعتراف بأن ظاهرة الفساد الاقتصادى أصبحت من المشكلات ذات الطابع العالمى، وأضحت من السمات اللصيقة بالدولة فى شكلها الحديث. فواقع العالم المعاصر يؤكد أنه لا تخلو دولة تماما من الفساد، مهما كانت درجة تقدمها واستقرارها الاقتصادى والسياسى والاجتماعى. بيد أن نفس هذا الواقع يشير إلى اختلاف درجة الفساد بين دولة وأخرى، وفى نفس الدولة من وقت لآخر. فالدول الأكثر تقدما هى نفسها الدول الأقل فسادا، والدول الأقل تقدما تعلو فيها مؤشرات الفساد. وأوضح دليل علمى نملكه على هذه الحقيقة هى نتائج مؤشر «مدركات الفساد» لعام 2016، والمرصود من منظمة الشفافية الدولية، والذى يرتب دول العالم تنازليا حسب بعدها عن الفساد، وحسب علوها فى الشفافية.
على أن الإمعان فى هذه الحقيقة يكشف عن وجود علاقة قوية بين ظاهرة الفساد وبين التحول التنموى فى أى دولة. وتظهر تلك العلاقة فى صورة حلقة مفرغة «vicious circle» متضاعفة. فلأن النمو الاقتصادى يحاصر الفساد، فمن شأن ذلك توليد مزيد من عوامل النمو. فى حين أن الفساد بتقييده للنمو، يمكن أن يفضى لمزيد من الفساد. فما هى مسببات نشوء هذه الحلقة المفرغة؟ وما هى ميكانيكية عملها؟ وكيف يمكنها مضاعفة الفساد؟ وهل بتكسيرها يتضاعف النمو المحقق؟ الفقرات التالية تجتهد فى الإجابة على هذه الأسئلة الملحة.
****
بوصفنا للعلاقة بين الفساد والنمو الاقتصادى على أنها تشبه الحلقة الدائرية المفرغة، فيعنى ذلك أنها ليست لها نقطة بداية محددة، ويعنى أنه من الممكن أن نبدأ تحليلنا لمكوناتها من أى نقطة واقعة على محيطها. ومع ذلك، وبسبب الدور المحورى للجهاز الحكومى فى النشاط الاقتصادى، نرى أنه من الملائم أن نبدأ هذا التحليل من نقطة «المالية العامة» (النفقات الحكومية والضرائب).
فبينما تؤكد النظرية الاقتصادية على أن قدرات النمو الاقتصادى تتضاعف مع كل زيادة فى الإنفاق الحكومى فى أوجهه المختلفة، فإن غياب معايير كفاءة الإنفاق العام تقلب هذه الحقيقة رأسا على عقب، ويصبح حدوث الفساد وتضاعفه أمر لا مفر منه. ولا عجب فى ذلك إذا ما علمنا أن تسرب جانب مهم من هذا الإنفاق بعيدا عن المنفعة العامة، ليحقق منافع خاصة ضيقة (وهذا هو أحد التعريفات الدقيقة للفساد الاقتصادى)، يحدث غالبا بسبب تردى معايير الكفاءة فى منظومة الإنفاق الحكومى. وليس أدل على مسئولية هذا الإنفاق كمضاعف للفساد من مشكلات الهدر فى نفقات الأجور والدعم، وذهابهما لغير المستحقين. فالرواتب والبدلات التى تمنح دون أن تقابلها إنتاجية وظيفية مكافئة لها، والدعم الذى يذهب للقادرين من ذوى الثروات والدخول المرتفعة، هو أهم صور الفساد الاقتصادى وأكثرها تبديدا للموارد المالية النادرة.
وما قيل فى بندى الأجور والدعم يمكن أن يقال مثله فى استثمارات الحكومة ومديونيتها. فغياب الخطة الاستثمارية والتشغيلية المنضبطة للمشروعات العامة، وتعارض المصالح بين الخزانة العامة وبين جهات الولاية على تلك المشروعات، يجعل الإنفاق الاستثمارى يعانى من مظاهر هدر متعددة، ويرفع من أعباء الصيانة المستقبلية لهذه المشروعات، وبما يغذى الفساد الاقتصادى ويضاعفه.
كما أن نفقات خدمة الدين العام يمكنها أن تغذى الفساد الاقتصادى إذا ما ضمنت الحكومة عمليات الاقتراض الخارجى للقطاع الخاص منخفض القيمة المضافة. فحتى لو سلمنا بغياب شبهات الفساد المباشر، وافترضنا قدرة هذا القطاع الخاص على خدمة مديونياته الخارجية بعيدا عن الخزانة العامة، إلا أننا مازلنا بصدد عملية مزاحمة تمويلية مكلفة للأنشطة الاقتصادية الصناعية مرتفعة الأثر التنموى. وهذا كفيل بتوليد نوع غير مباشر من الفساد الاقتصادى.
وعلى الجانب الآخر من المالية العامة، يقف التهرب الضريبى شاهدا على أحد أهم صور الفساد وأكثرها انتشارا. فالدولة التى تنخفض فيها الحصيلة الضريبية على الثروات والأرباح، ويتراجع فيها الجهد الضريبى منسوبا إلى إجمالى الدخل المحقق فعليا، هى دولة تعانى من خلل جسيم فى منظومة الضرائب بمكوناتها المؤسسية والقانونية والتكنولوجية، وترتفع فيها «مهارات» التهرب الضريبى، ويتكاسل فيها الممولون عن الالتزام الضريبى، وبما يزكى، فى التحليل الأخير، من قدرات الفساد على تعطيل النمو الاقتصادى.
****
والنقطة الجوهرية الثانية فى مكونات الحلقة المفرغة بين الفساد والنمو الاقتصادى، تكمن فى قطاع التجارة الخارجية للدولة (هيكل الصادرات والواردات)، فإذا كانت الصادرات قادرة نظريا على مضاعفة النمو، فمن الممكن أن تصبح بابا خلفيا للفساد، وخصوصا إذا ما تركزت أنشطتها فى تصدير المواد الخام الناضبة. على سبيل المثال أنشطة تصدير الثروة المعدنية فى الدول النامية. فأغلب العقود المبرمة بين المصدرين وبين أجهزة الولاية على هذه الثروة، يمكن أن تشوبها شائبة الفساد، إذا ما تركت عملية إعادة تسعير هذه الثروة دون تعديل دورى يراعى حقوق الخزانة العامة فى هذه الموارد، وإذا لم ينص على ذلك صراحة فى تلك العقود. وليس هذا فحسب، بل إن وقوف السياسة الاقتصادية مكتوفة الأيدى أمام استنزاف هذه الموارد الناضبة، وبدلا من اجتهادها فى تحفيز الرأسمالية الصناعية الوطنية على تحويلها لسلع صناعية مرتفعة القيمة المضافة، وإحلال صادرات المواد الخام بصادرات صناعية متطورة، لهو من صور الفساد «المقنع»، والذى يضيع على الاقتصاد فرص مهمة للاستثمار والتشغيل والنمو.
وعلى صعيد الواردات، وإذا كان الأثر السلبى لزيادة الواردات على النمو المحقق (حتى بدون وجود شبهات فساد)، هو من المعلوم من الاقتصاد بالضرورة، فإن الفساد الذى يصاحب أنشطة الاستيراد يمكن أن يضاعف هذا الأثر. فالاحتكارات التى تنشأ وتتضخم فى سوق الاستيراد، تجدها دائما تعارض أى سياسة اقتصادية وطنية تهدف لتقييد الواردات للمحافظة على أرصدة النقد الأجنبى الشحيحة. ودائما ما تقف، بشتى الأساليب والحيل المشروعة وغير المشروعة، حجر عثرة أمام إطلاق الطاقات الكامنة للصناعة المحلية لإنتاج بدائل وطنية لما تستورده، وخصوصا إذا كان من النوع الترفى عالى الربحية. بل إن هذه الاحتكارات يمكنها أن تذهب لأبعد من ذلك وتتحالف مع الشركات دولية النشاط، و/أو تدعم المنظمات الدولية فى الضغط على صانع السياسة الاقتصادية، ليمهد أمامها الطريق لتزيد من سيطرتها على الأسواق المحلية. فإذا لم يعد هذا من قبيل الفساد الاقتصادى، فماذا عساه أن يكون؟!
****
ومهما يكن من أمر، فإننا نود هنا على الأخص أن نؤكد أنه مازال هناك العديد من النقاط الواقعة على محيط هذه الدائرة المفرغة (البطالة، التضخم، الديون الخارجية... إلخ)، وتساهم هى الأخرى فى تغذية الفساد ومضاعفة آثاره السلبية. ولكننا اكتفينا بتحليل نقطتى المالية العامة والتجارة الخارجية، لأننا نعتقد أنهما أبرز هذه النقاط وأكثرها فاعلية فى خلق ومضاعفة الفساد، ولكونهما يخلقان البيئة المناسبة لنمو شجرته الخبيثة.
وانطلاقا من هذه النتيجة، نؤثر القول بأنه لا يمكن لأى إدارة اقتصادية رشيدة أن تتصدى لظاهرة الفساد الاقتصادى، وأن تكسر حلقته المفرغة، وأن تطلق قوى مضاعفة النمو الاقتصادى، إلا بالعمل على محورى المالية العامة والتجارة الخارجية. فاستحداث و/أو تطوير نظام صارم لكفاءة الإنفاق العام على أوجه الإنفاق المختلفة، وخلق منظومة ضرائبية متطورة مؤسسيا وقانونيا وتكنولوجيا، هى الضمانة الأولى لمنع التسرب والهدر المالى، ولمحاصرة ظاهرة الفساد الاقتصادى. أما الضمانة الثانية فتتمثل فى إعادة الاعتبار لعملية تخطيط التجارة الخارجية، وربط مراحلها ومكوناتها المختلفة بالاحتياجات التنموية. وفى ذات الوقت، كسر جميع الاحتكارات فى أسواق الصادرات والواردات.
إن الخبرات الدولية المتراكمة فى ظاهرة الفساد الاقتصادى توضح أنه بتوافر البيئة الحاضنة، تنمو شجرة الفساد وتزدهر، ولا تتمكن شجرة النمو الاقتصادى من إسقاط أى ثمار صالحة للتنمية. وحتى لو سقطت بعض الثمار، فإن شجرة الفساد سرعان ما تلتهمها، وتحرم المجتمع من آثارها التنموية. ولهذا، فأننا نعتقد أنه عندما تتوافر الإرادة الجادة لمحاصرة الفساد، وعندما تجتهد الإدارة الاقتصادية الرشيدة فى اجتثاث شجرة الفساد، وتهيئ التربة الاقتصادية الوطنية لشجرة النمو الاقتصادى الطيبة، حينها، وحينها فقط، يعمل مضاعف النمو بانتظام، وتتساقط من شجرته ثمار التنمية المستدامة!
محمد يوسف باحث رئيسي في مركز تريندز للبحوث والاستشارات بدولة الإمارات
التعليقات