ماذا حدث فى أمريكا؟ - محمد عبدالمنعم الشاذلي - بوابة الشروق
الأحد 15 ديسمبر 2024 6:46 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماذا حدث فى أمريكا؟

نشر فى : الجمعة 29 يناير 2021 - 9:05 م | آخر تحديث : الجمعة 29 يناير 2021 - 9:05 م

شهدت الولايات المتحدة تطورات خطيرة على ساحتها السياسية وصلت إلى حد اقتحام الكابيتول، وهو أمر لم يحدث إلا فى عام 1812 قامت به القوات البريطانية خلال الحرب بين الدولتين، تلا ذلك امتناع الرئيس الراحل عن حضور مراسم تنصيب الرئيس المنتخب الجديد وبذلك يكون الرئيس الرابع الذى يمتنع عن حضور تنصيب خلفه، كان آخرهم أندرو جونسون فى عام 1869، أى منذ أكثر من 150 سنة.
هل سبب ما حدث هو رئيس طائش تصرف تصرفات رعناء؛ لأنه دخل باب السياسة فى أعلى أدوارها دون خبرة سابقة أم أن الأمر أعمق من ذلك؟
إن ما حدث فى الولايات المتحدة يكشف عن تقطب شديد فى المجتمع نتج عن تراكمات تاريخية عميقة. والثنائية دائما تساعد على التقطب، فالساحة السياسية الأمريكية تتميز عن باقى الديمقراطيات الغربية بأنها ساحة ثنائية يسيطر عليها لقرابة القرنين الحزبان الرئيسيان: الحزب الديمقراطى والحزب الجمهورى بشكل يختلف عن الساحة الأوروبية فى فرنسا وألمانيا وإيطاليا التى تتصارع فيها مجموعة من الأحزاب كثيرا ما تصل إلى الحكم عن طريق الائتلاف. يضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة وصلت إلى ما وصلت إليه بعد معاناة دامية لقطاعات كبيرة من الشعب تعرضت لامتهانات واضطهادات وتصفية يصعب أن تزول مرارتها مع الزمن، منهم السكان الأصليون الذين نصر أن نطلق عليهم اسم الهنود الحمر، ومنهم الأفارقة الذين تحرروا من الرق، ومنهم الآسيويون خاصة ذوى الأصول الصينية الذين جُلبوا لمد خط السكك الحديدية من ساحل الباسيفيك شرقا. ولعل أكثر من صور معاناة الشعب الأمريكى هو الكاتب Howard Zinn فى كتابه A peoples history of the United States الذى صور فيه ما تعرضت له هذه القطاعات من الشعب من ظلم وعنف إضافة إلى ما تعرضت له المرأة والعمال.
لا يمكن لأى منصف أن ينكر الخطوات الكبيرة التى خطتها الولايات المتحدة من أجل الإصلاح التشريعى والمجتمعى لتحقيق الحرية والعدالة للشعب، حتى أصبح المواطن الأمريكى يتمتع بحرية يحسده عليها الغير. إلا أن هذه الحرية بنيت وتأسست على مظالم شديدة ما زالت آثارها تزلزل البنيان الاجتماعى.
ومما رسخ آثار هذه المظالم ردود الفعل العنيفة التى تبعت كل خطوة فى سبيل الإصلاح.
***
كانت أولى هذه الخطوات هى الموقف من الرق، ومن المفارقات أن هذه الخطوة خطاها الحزب الجمهورى الذى يقترن فى الأذهان بالمحافظة الجامدة والعنصرية، إلا أنه أنشق عن الحزب الديمقراطى بسبب قانون Kansas ــ Nebraska لسنة 1854 الذى سمح بامتداد الرق إلى الغرب الأمريكى الذى سبب انقساما شديدا فى المجتمع الأمريكى، وتبع ذلك قرار الرئيس الجمهورى «ابراهام لينكولن» بإلغاء الرق. اعتبر قراره خطوة عظيمة إلى الأمام، إلا أنها أدت إلى رد فعل هائل وهو الحرب الأهلية التى راح ضحيتها مليون أمريكى فى وقت كان تعداد الولايات المتحدة لا يكاد يكون ثلاثين مليونا، يضاف إلى ذلك ما ارتكبه الشماليون من فظائع أبرزها ما سمى بزحف الجنرال وليام شيرمان الذى أحرق ودمر ونهب المدن الجنوبية بشكل يؤهله لأن يكون من أعتى مجرمى الحرب فى العصر الحديث.
ومع انتصار قوات الشمال قدم لينكولن عرضا للمصالحة فى خطابه الشهير بعد معركة جتسبيرج الحاسمة وكان رد الفعل اغتيال لينكولن.
***
استمر الحكم العسكرى لولايات الجنوب بعد هزيمتها حتى عام 1877 حيث تم فى عهد الرئيس رذرفورد هايز حل توافقى يلغى الرق فى أنحاء الولايات المتحدة لكنه يسمح لولايات الجنوب بسن قوانينها سيئة السمعة التى تقنن التفرقة العنصرية وهى القوانين التى عرفت باسم قوانين Jim Crow.
وبعد عودة القوات الأمريكية المنتصرة فى الحرب العالمية الأولى استكثر غلاة العنصريين أن يستقبل الجنود السود كأبطال وقامت عمليات قتل وتمثيل عديدة بهم على يد منظمة كوكلاكس كلان. وكان من أكثر مظاهر العنصرية فجاجة خروج جورج والاس حاكم ولاية ألاباما ليمنع ثلاثة طلاب سود من دخول الجامعة. وجاءت خطة هامة نحو المساواة بصدور قانون الحقوق المدنية civil rights act سنة 1964 تبعه انتكاسة اغتيال داعية الحقوق المدنية مارتن لوثر كينج عام 1968 واستمرت الخطوات نحو العدالة والحق بتعيين الجنرال كولن باول كأول أمريكى أسود رئيسا لهيئة الأركان المشتركة ثم وزيرا للخارجية، وتلته الأمريكية الأريكية السوداء كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية، وتوج ذلك بانتخاب باراك أوباما كأول رئيس جمهورية أسود، ومع كل خطوة يزداد قلق غلاة العنصرية white supremacist وهنا ظهر دور ترامب كمحفز بإجراءاته العنصرية ضد اللاتين وبناء الحائط على الحدود مع المكسيك ومنع دخول رعايا عدد من الدول الإسلامية. ولم يدرك ترامب لضحالته السياسية أن الولايات المتحدة ليست بها أقليات لكنها دولة تتكون من أقليات مهاجرة ستتكاتف مع غيرها لأنها تدرك أن سلامتها فى سلامة غيرها. وفى هذا الجو زادت حالات إطلاق الشرطة النار على رجال سود غير مسلحين مما أدى إلى احتقان عنصرى ومظاهرات عنيفة فى عدد من المدن الأمريكية، وكان ذروة ذلك مقتل الأمريكى الأسود الأعزل جورج فلويد فى مشهد مأساوى فجر الاحتجاجات، ليس فى أمريكا وحدها بل فى العديد من الدول الأخرى.
توج ترامب فترة رئاسته برفض ممجوج لنتائج الانتخابات الرئاسية وقدم أكثر من ستين دعوة أمام المحاكم رُفضت كلها ثم وصل أوج الحماقة بتشجيع الدهماء على اقتحام مجلس النواب. والمراقب للحدث يرى أن جميع المشاركين فى الاقتحام كانوا من البيض مما أعطى الأمر بعدا عنصريا.
وكان أيضا من مظاهر تقطب المجتمع الأمريكى الدعاوى الجمهورية بأن الديمقراطيين يقودون البلاد إلى اشتراكية ويؤكده سوابق تاريخية مثل العقد الجديد New Deal الذى قدمه الرئيس روزفلت للخروج من الكساد الكبير فى ثلاثينيات القرن الماضى، وخلفية المرشح الديمقراطى بيرلى ساندرز فى الانتخابات التمهيدية المجاهرة بالاشتراكية. وفى مواجهة الدعاوى الجمهورية هناك دعاوى ديمقراطية بأن الحزب الجمهورى يسلم البلاد لغلاة عنصريين White Supermacists وأنه تم شخصنة الحزب وهو ما صرح به ابن ترامب الذى وقف يهتف بأنه لم يعد هناك حزب جمهورى، وإنما هناك حزب دونالد ترامب.
هذا التقطب الشديد يشير إلى ضرورة علاج جذرى للمشاكل، لعله يكون منها بزوغ حزب أو أحزاب جديدة تطرح بدائل للحزبيْن الكبيريْن أو إصلاحات جذرية وأهمها دخول دماء جديدة إلى الساحة السياسية الأمريكية، والإدراك بأن المشكلة لم تكن ترامب لكنها فى المناخ السياسى العام.

محمد عبدالمنعم الشاذلي عضو المجمع العلمي المصري
التعليقات