يمثل ديوان «المواويل» الصادر عام 1978 فى كراسات الفكر المعاصر للشاعر فؤاد قاعود (1936 ــ 2006) تجربة فنية متفردة، فالديوان يضم خمسين موالا نحتهم فؤاد قاعود على غير مثال فى بنية مبتكرة تختلف اختلافا جوهريا من حيث الشكل عن المواويل التى ألفتها الجماعة الشعبية عبر تاريخها الطويل. فقد رصد الشاعر والباحث مسعود شومان صيغ الموال الشعبى التى تم جمعها حتى الآن فى «الموال الرباعى والخماسى والخماسى الأعرج والسباعى، وقد زادت أغصان هذه المواويل أحيانا لتصل إلى أعداد أكبر مثل الموال (19زهرة)، والموال (25 زهرة) حيث كان نمو الموال يتم عرفا بأعداد فردية».
أما مواويل فؤاد قاعود فتتكون من ثمانية أغصان تتشكل قوافيها وفقا للمتوالية (أ.أ.أ.ب.ب.ج.ج.أ) حيث تتفق القوافى الثلاث الأولى فيما بينها، ثم تتفق قافية الغصنين الرابع والخامس، ثم تتفق قافية الغصنين السادس والسابع، قبل أن يكرر السطر الثامن والأخير القافية الأولى مرة أخرى ليكون بمثابة «القفل» الذى يجمع شمل الموال موسيقيا ودلاليا أيضا. هذا هو النمط الثابت فى بناء مواويل قاعود بداية من موال «الإهداء» الذى يقول فيه:
ببنى المواويل سبيل وأوقفها للمجاريح
خُطَّاب سراب المنى وبلابل التبريح
وازرع بشارف شجر وارف وضل مريح
وديا طقطوقه تشبه بنت ممشوقه
الصدر مطلع وعند الخصر معفوقه
وانا اللى خص الهوى قدرى فى دنياتى
بقد قفلة عجم وبحضن بياتى
بوهب غنايا عطايا للمطر والريح
ويتضح من الموال السابق أن الشاعر كان يتعمد فى هذه التجربة أن يبتكر قالبا شعريا جديدا يبقى للتاريخ، ويكون بديلا له عن مقاطعته لـ(سراب المنى) الذى تحققه أغنيات (بلابل التبريح) التى كان يرى أنها تمتهن الشعر فى بعض الأحيان، وتمتهن الشاعر فى كثير من الأحيان.
ولهذا لم يكن غريبا أن نجد لدى هذا الشاعر المعتز بنفسه والزاهد فى المال والجاه موالا خاصا يتحدث فيه عن وجهة نظره فى «الشهرة» حيث يقول:
لو غِيِّتك شهرتك اعمل لها طبال
صوت الكفوف ع الدفوف يدوش لكين قتال
والشهرة مهره حويطه تقلب المختال
تجمح وترمح وتقزح باللى راكبها
يا يطُب للديل يا يطلع فوق مناكبها
تعاند اللى ركبها والغرور ساقه
وتصاحب اللى يلجمها بأخلاقه
والحر لجل الحقيقه يركب الأهوال!
وقد تنوعت موضوعات المواويل تنوعا مدهشا، وإن اتفقت جميعها فى أنها تصور وجهة نظر الشاعر فى الحياة وتصيغها بأساليب مختلفة تبدأ من الحكمة المباشرة أحيانا وتنتهى بالفلسفة العميقة، حيث يمكننا أن نجد نموذجا للنوع الأول فى موال «الأسد» الذى يقول:
قالوا التعالب زئيرك زلزله وتزول
هَبَّه لكين بعد حبه تتردف بخمول
وظنوا كشفك لنابك ابتسام وقبول
إن غبت يجروا سوابق فى انتهاك الحق
ولما صوتك يجلجل يدخلوا ف الشق
يأمِّنوا نفسهم ويقلدوا الأبرار
وصار هديرك نفير بينبِّه الأشرار
بطل زئير يا أسد وافعل بدون ما تقول
وعلى الرغم من مباشرة الحكمة فى الموال السابق، فإن صياغته الرمزية وتقاطعه مع التراث الشعرى العربى المتمثل فى قول المتنبى: (إذا رأيت نيوب اللــيث بارزة/فلا تظنن أن الليث يبتسمُ)قد تضافرا فى منح الموال عمقا وغموضا يرتفعان به فنيا عن سفح المباشرة.
ويمكننا أن نجد نموذجا للحكمة العميقة فى موال «الموت» حيث يقول الشاعر:
حسبت موتى فى آخر دنيتى تبجيل
إن كان ملفى يكفى ع الطريق كدليل
وسقيت بذورى نفورى من بُكا وعويل
ويقهر الموت قبوله بالرضى والطوع
الفرد ينشى.. ويمشى.. والخلود للنوع
واللى انتصر ع الضرورة باختيار مسئول
إذا المغيب جلله يتأمله ويقول
جليل غروب الكواكب كالميلاد وجميل
حيث يعكس الموال السابق فلسفة عميقة فى التسامى على الموت، ولكن قد تفقد رؤية الشاعر بعضا من مصداقيتها إذا فهم المتلقى كلمة (حسبت) فى مطلع الموال بمعنى (ظننت)، لأنها فى هذا السياق بمعنى (احتسبت)، أى إنها لا تشير إلى الشك بل إلى اليقين الذى ترسخ فى نفس شاعرنا منذ أن كان طفلا ينفر من البكاء والعويل على الموتى.
وظهور هذه الفلسفة العميقة فى بعض المواويل،لم يمنع وجود المفارقة الفكاهية الساخرة فى بعضها الآخر، فكلاهما وجهان لشخص واحد، حيث يقول فؤاد قاعود فى موال «الموقعة» مثلا:
جلبت بوصة طويلة قد رمح كبير
ورشقت فى طرفها دبوس مصدى حقير
وبيسكليته بتلات عجلات لطفل صغير
نزلت وسط الميدان بصرخ ومش هازل
هل من مُنازل ما بينكم للدما باذل؟
ورغم إن الجميع ضحكوا على الصفين
كريت عليهم جروا.. واتكعبلوا ألفين
ورجعت تارك ورايا م الضحايا كتير!
وربما كان هذا الفزع الإنسانى غير المبرر، هو الدافع وراء محاولة شاعرنا وضع تقويم جديد للعالم يعيد فيه صياغته مرة أخرى تحقيقا لفردوسه المفقود، حيث يقول فى موال «التقويم»:
عملت غير القديم تقويم جديد وبهيج
أربع فصوله ربيع أخضر بديع وأريج
يخلى حس السعادة عادة بالتدريج
يتحقق الخير ويبقى العدل طقس وحيد
فى كل بيت عيد وعش جديد والمواليد
ييجوا بدال البكا بيكركعوا الضحكات
نابت لهم كلهم من فرحهم جناحات
ونفوز ما بين الملايكة والبشر بمزيج!
وإذا كان الشاعر لم يتمكن بالتأكيد من إقرار تقويمه الخيالى نصف الملائكى، فإنه قد تحايل فى الواقع على قبح العالم بجمال الفن الذى يراه عجينة واحدة مهما تنوعت أشكاله وتعددت،حيث يقول فى موال «النحات»:
الكتلة وعد بأمل ح يحققه التشكيل
كامن داخلها عيون واسعة وأنف جميل
كاشف أنا لُبَّها وف قبضتى الأزميل
وما عليا إلا إنى أكشط الزيادات
فينوس دى واللا حوريه نازله م السموات
وأنا اللى ساعة التجلى بجهل التوقيت
بذلت دمى ف بزلت وروحى ف الجرانيت
لحد لما الحجر قال للبشر مواويل!
فها هو الحجر يقول مواويلا، وها هى مواويل فؤاد قاعود تماثيل شامخة فى ساحة شعر العامية.