أثناء معركة الانتخابات الرئاسية فى الولايات المتحدة تعرض أوباما لانتقادات انصبت على ضآلة خبرته فى الشئون الخارجية. وعندما اختار أوباما جوزيف بايدن ليكون نائبا له أعلن خصومه على الفور أن أوباما قد وجد ضالته المنشودة فى عضو مجلس الشيوخ المخضرم والرئيس السابق للجنة العلاقات الخارجية بالمجلس.
ولما اختار أوباما هيلارى كلينتون وزيرة لخارجيته قالوا إنه قرر الاستعانة بالسيدة الأولى السابقة، والتى ولا شك قد استفادت الكثير من خبرة زوجها، فضلا عن سجلها الحافل فى مجلس الشيخ على امتداد ثمانية أعوام عملت أثناءها بلجان لها صلاتها بالأمن القومى والقوات المسلحة.
وربما كان كافيا أن نرصد اللقاءات الناجحة، التى أجراها أوباما خلال تلك الفترة القصيرة منذ تنصيبه، مع العديد من الزعماء فى أمريكا اللاتينية وأوروبا وآسيا، لنحكم على قدرات أوباما فى ميدان السياسة الخارجية، والتى جاءت على عكس كل التوقعات، التى كانت تتشكك فى قدراته. غير أننى أعتقد أن أوباما قد تفوق على نفسه بالفعل عندما ظهر على شاشات التليفزيون متحدثا للصحفيين وإلى جانبه بنيامين نتنياهو بعد اجتماعهما المطول بالبيت الأبيض يوم 18مايو.
فإلى جانب طلاقه لسانه التى تميز بها، ظهر وكأنه يشع ثقة بالنفس، وعلى دراية كبيرة بالموضوع الذى تحدث عنه. لم نشاهد نائب الرئيس بايدن يهمس فى أذنه بما عليه أن يقوله، ولم نلحظ هيلارى كلينتون تحاول تلقينه التصريح المناسب. على العكس تماما، تعامل الرجل بكل هدوء ودبلوماسية مع ضيف يتحلى بقدر يحسد عليه من الصلف والعجرفة.
لم يقع الصدام، الذى كان يتوقعه البعض، غير أن الرئيس الأمريكى نجح فى تأكيد كل ما أراد تأكيده بكل وضوح وقوة. وخيل إلىّ وأنا أتابع اللقاء إننى استمع إلى «عزف منفرد» بدأه أوباما وأنهاه نتنياهو.
كان من الواضح أن نتنياهو ذهب إلى واشنطن رافعا شعار «إيران أولا»، وانطلق من ذلك ليحارب على ثلاث جبهات، الأولى محاولة إقناع أوباما وإدارته، ومن ورائها الشعب الأمريكى بالطبع بأن إيران هى الشر بعينه والخطر المحدق ليس على إسرائيل وحدها، بل على المصالح الأمريكية كلها، وعلى النظم العربية المعتدلة! ومن أجل مضاعفة جرعة «التخويف» قال إن إيران ستوفر المظلة النووية للإرهابيين، ويمكنها أن تمدهم بالأسلحة النووية (صدق أو لا تصدق).
والجبهة الثانية تتعلق بالارتباط بين ضرورة القضاء على التهديد الإيرانى وإحداث تقدم حقيقى فى عملية السلام.
أما البعد الثالث، فكان مطالبة أوباما بوضع سقف زمنى لأى مفاوضات مقبلة بين أمريكا وإيران بحيث يمكن بعد ذلك اللجوء إلى خيارات أخرى.
ومن ناحيته أوضح أوباما موقفه كالآتى:
من المهم إقناع الإيرانيين بأن أمنهم يمكن تحقيقه بوسائل أخرى غير الخيار النووى.
أنه ينظر إلى الارتباط بين الملف النووى الإيرانى وعملية السلام بشكل عكسى تماما للطرح الإسرائيلى، إذ يعتقد أن التقدم فى عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين سيقوى من ساعد أمريكا فى التعامل مع أى تهديد إيرانى محتمل.
رفض أوباما بشكل قاطع الالتزام بسقف زمنى وصفه بالمصطنع artificial deadline فى الحوار مع إيران. وسخر أوباما من قول أحد الصحفيين بأنه يمكن تفسيره يده الممدودة لإيران على أنها مظهر من مظاهر الضعف، وهنا انتهز الفرصة ليؤكد للجميع «أن إدارته قد التزمت بمبدأ مهم وواضح وهو أنه إذا كان من الممكن حل المشكلات عن طريق المفاوضات فإن إدارته لن تتردد فى أن تسلك هذا السبيل».
ولكن ماذا عن العملية السلمية فى الشرق الأوسط فى مباحثات الرئيس الأمريكى ورئيس الوزراء الإسرائيلى؟ أكد أوباما أمام نتنياهو والصحفيين والعالم أجمع الذى يتابع تصريحاته على الآتى:
ضرورة الالتزام بحل الدولتين، وكذلك الالتزام بما سبق الاتفاق عليه سواء فى خريطة الطريق أو فى أنابولس.
وطالب بضرورة توقف الاستيطان settlements have to stop. وأتصور أن هذه العبارة التى نطق بها أوباما تمثل نقلة نوعية فى الموقف الأمريكى من موضوع المستوطنات، والذى كان حتى وقت قريب يرى فى المستوطنات مجرد عقبة فى طريق السلام.
وانتقد أوباما استمرار الحصار على غزة، الذى قال إنه يحرم الفلسطينيين هناك حتى من الحصول على المياه النقية أو السير فى جهود الأعمار أو وصول المساعدات الإنسانية إليهم. ويضيف أن هذا الوضع «لن يشكل الوصفة recipe لتحقيق أمن إسرائيل على المدى الطويل، ولن يساعد على تحريك مسار التسوية».
من ناحية أخرى، تحدث أوباما عن ضرورة قيام العرب باتخاذ خطوات أكثر شجاعة فى سبيل التطبيع مع إسرائيل.
هذا ما قاله أوباما، فماذا الذى قاله نتنياهو أو فى الواقع ما لم يقله:
لم يرد على لسانه فى أى وقت تعبير الدولة الفلسطينية. تحدث فقط عن حكم الفلسطينيين لأنفسهم وعيشهم جنبا إلى جنب مع الإسرائيليين.
ولم يأت على ذكر خريطة الطريق أو أنابوليس.
إنما طالب بضرورة اعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كدولة يهودية.
وتكلم عن توسيع دائرة السلام لتشمل آخرين فى العالم العربى.
ولابد هنا من التعرض إلى موقف نتنياهو الرافض للدولة الفلسطينية. ولا شك أن ما ذكره أحد مستشاريه تعليقا على ذلك يوضح الأمر بكل جلاء. قال هذا المستشار، إن إنشاء دولة فلسطينية يستدعى وجود جيش تحت تصرفها، ويعنى سيطرة الدولة الجديدة على مجالها الجوى وعلى مياهها الإقليمية (وكأن هذه الحقوق الأصيلة من المحرمات على الفلسطينيين فى عرف إسرائيل). ويضيف المستشار أن تسمية الكيان الفلسطينى الوليد إنما يأتى كنتيجة للمفاوضات، وليس فى بدايتها، حيث لابد من التعرف على نوايا الفلسطينية أولا!
أما المطالبة باعتراف الفلسطينيين بإسرائيل كدولة يهودية فقد تكفل وزير الخارجية ليبرمان بشرح السبب الكامن وراء ذلك عندما ذكر فى مناسبات سابقة أن عرب إسرائيل يمثلون فى الواقع المشكلة الأعظم أمام إسرائيل. وطالب بناء على ذلك بتهجيرهم إلى الضفة وهدد بحرمانهم من التصويت فى الانتخابات إذا لم يقسموا قسم الولاء لدولة إسرائيل. إذن فالموضوع يرقى فى الواقع إلى مستوى التطهير العرقى إذا ما تحقق لإسرائيل ما تريد من الاعتراف بها كدولة يهودية خالصة.
وعندما يصل أوباما إلى القاهرة أوائل يونيو يكون قد تعرف على الموقف العربى من خلال اللقاءات، التى يكون قد أجراها حتى ذلك الوقت، بالإضافة إلى ما سمعه من نتنياهو. وسيكون فى وضع يمكنه من توجيه الرسالة التى يبغيها إلى العالم الإسلامى، والتى سيحرص بالطبع على أن تنجح فى استعادة الثقة فى الولايات المتحدة.
إلا أنه من المهم فى نفس الوقت ألا نركن لهذه التوقعات، إذ علينا أن نتوقع ضغوطا هائلة على إدارة أوباما من قبل إسرائيل وأصدقائها فى الكونجرس ومن اللوبى الإسرائيلى القوى فى الولايات المتحدة. وظهرت بالفعل بوادر لهذه الضغوط فى شكل رسائل من أعضاء الكونجرس لأوباما بأن يأخذ فى الاعتبار المخاطر، التى ستواجهها إسرائيل فى إطار أى اتفاق للسلام. كما تم إطلاق العديد من بالونات الاختبار حول ما يمكن أن يصدر عن أوباما بمبادرات وأفكار عندما يلقى خطابة من القاهرة.
وواقع الأمر إننا لسنا فى حاجة إلى المزيد من المبادرات، فقد قدم العرب مبادرة للسلام عام 2002 حظيت بتأييد جماعى عربى، وجاء تأييد هذه المبادرة من قبل منظمة الدول الإسلامية، التى تضم 57 بلدا إسلاميا سيخاطبهم أوباما، بمثابة الرد الواضح على دعوات توسيع دائرة السلام. ولابد أن تبقى هذه المبادرة العربية السخية نقطة الارتكاز فى أى تحرك مقبل، وذلك فى ظل تضامن عربى فاعل ووفاق فلسطينى لا يحتمل المزيد من التأخير.