«أسمع العشب ينمو وقلب العصفور ينبض». أين الحقيقة وأين الخيال فى هذه العبارة التى ترد أو يرد مثلها فى بعض التحقيقات والتقارير الصحفية. الحقيقة الوحيدة المفترضة هى أن الصحفى معد التحقيق أو كاتب التقرير رأى عشبا ورأى عصفورا. أما الخيال فهو فى العبارات التى اختارها ليروى بها هذه «الحقيقة»، هى الفانتازيا التى يتصور بعض الصحفيين أنها ضرورية لنقل «الحقيقة» إلى القارئ.
●●●
يعتقد صحفيون متزمتون أنه حين تدخل على «الحقيقة» محسنات أو مخفضات أو مضخمات، كما يحدث فى تقارير وتحقيقات عديدة تنشرها الصحف فى كل أنحاء العالم، تتراجع الحقيقة، ويتحول الخبر إلى شىء آخر لا علاقة له بالحقيقة التى شاهدها أو سمعها الصحفى فى مصدرها. يميل صحفيون وروائيون، بنية طيبة وخالصة أحيانا، إلى استخدام خفة الظل والدوران والتشويق فى نقل الحقيقة، مطمئنين إلى أن القارئ الذى لا يعرف الحقيقة كما هى فى مصدرها لن يشكك فيها عند قراءتها. معروف عن القارئ أنه يتعامل مع المعلومة المنشورة فى صحيفته على أنها الحقيقة، ولا حقيقة أخرى غيرها، وإلا ما نشرتها صحيفته التى يثق فيها. معروف فى الوقت نفسه أن القارئ يساوره الشك فى نوايا ناقل الحقيقة عندما يجد مبالغة فى استخدام خفة الظل أو يلاحظ جهدا فى محاولة التأثير على وقع الحقيقة عليه، أو حين يشعر بضغط مفضوح من المحرر أو الكاتب لإقناعه بخطورة هذه «الحقيقة» تحديدا ودوافعها ومصيرها.
●●●
تخصص صحيفة نيويورك تايمز مساحة تحت عنوان «مسودة»، يكتبها صحفيون كبار بهدف نشر الوعى بين الصحفيين بأهمية مراعاة أخلاقيات المهنة الصحفية وتطوير أداء صغار الصحفيين ورفع مستوى المستجدين فى المهنة. كتب واحد من هؤلاء الصحفيين المخضرمين يحذر زملاءه من الصحفيين الشبان من فقدان قارئ استشعر تشويها متعمدا فى نقل الحقيقة إنهم أفرطوا فى استخدام المحسنات اللغوية والجمل الاعتراضية. حذرهم أيضا من شك يساور قارئا شعر بأن محررا يحاول أن يدس رأيا فى حقيقة ليست من صنعه، هو ناقل لها فقط. هذا القارئ ينتهى به الأمر معتقدا أن الصحفى يستهين بذكائه أو يسخر منه. يقول الكاتب الكبير: إن الشىء الوحيد الذى يربط القارئ بالصحفى وصحيفته هو التزام الثلاثة بالحقيقة، أو بأقرب شىء ممكن إلى الحقيقة.
●●●
سألت إعلاميا كبيرا مخضرما عن رأيه فى أسباب انتشار ظاهرة التدخل فى الخبر بتجميله أو حشوه برأى محرره وناقله. عرض ثلاثة أسباب لأختار من بينها سببا أو أكثر. قال «إما أن الصحيفة غير متأكدة من أن ما وصل إليها هو الحقيقة، أو أنها عاجزة عن الحصول على عدد كاف من الأخبار الهامة لتنتقى من بينها، أو أن نية القائمين عليها غير خالصة أو محايدة تجاه حقيقة بعينها».
عدت من الخارج بعد فترة كانت مصر تغلى الشائعات حول «حقيقة» ما حدث ويحدث فى سيناء. تردد كثيرا منذ لحظة وصولى فى مطار القاهرة وحتى ساعة كتابة هذه السطور، السؤال عما إن كنت قد عثرت على هذه «الحقيقة» فى الخارج. طلبت نصوص ما أفتى به الخبراء وأصحاب الرأى وعامة الصحفيين كبارا وصغارا حول الموضوع، قرأتها مرة ومرة أخرى قبل أن يصيبنى غم عظيم. وجدت خيالا فياضا وإيحاءات غزيرة ونظريات عقيمة ولم أجد نصا واحدا يثير فى نفسى وعقلى راحة الرسو على بر الحقيقة، أو حتى ما يقترب منه. بدت النصوص وكأنها ثمار جهود مشتركة للهروب من مواجهة الحقيقة أو محصلة رغبة عامة فى التعتيم عليها.
●●●
أشد الضرر يصيب بلدنا إذا تعاملنا مع كل ما نقرأ ونسمع عن سيناء على أنه «الحقيقة» لأننا نكون قد تصرفنا كالبلهاء فى قضية خطيرة تتفاعل أطرافها هناك بامتدادات فى شتى الاتجاهات. هناك تطورات عديدة واقعة وصارخة وكاشفة ولم تجد حتى الآن من ينقلها إلى المواطن بشفافية وبدون تضخيم أو تهوين.
هناك فى سيناء تمتحن مصر مؤسساتها وسياسييها، تمتحن قدرتهم جميعا على صنع حقيقة جديدة تليق بثورة وثوار، وإن فشلوا، فقدرتهم على استعادة «الحقيقة الغائبة».