خلصت الانتخابات؟ خلاويص؟ لسه؟ أكتب هذه السطور صباح الأربعاء، وقد قررت لجنة الانتخابات، فى ابتكار جديد من ضمير أمتنا، أن تترك صناديق الاقتراع متاحة للمواطن ليوم ثالث لعله يلين ويذهب إليها. فماذا عن الخميس؟ هل تقرأون هذه السطور وقد استقر البلد على رئيس واضح نستطيع أن نطلب من وقته عشر دقائق؟ عارفة إن مهام الريس القادم كتيرة وإنه جاى على مشاكل كبيرة لكن، فى الحقيقة، مافيش أهم من البنى آدم، وباسم المتولى بنى آدم يقضى أيامه الآن فى سجن أبو زعبل فى انتظار الفرج.
وقصة باسم، المهندس باسم المتولى، تثير أسئلة جديدة حول ما يحدث للعدالة فى مصر، وهى أيضا تحمل عبرة لمن يعتبر: ليس هناك أمان لأى فرد فى هذا البلد مادامت منظومة العدالة مختلة.
رسالة باسم المتولى تنضح بالتعجب، هو بالفعل لا يصدق، غير مقتنع بالكابوس الذى يعيشه منذ خمسة أشهر: «أنا و١٥ تانيين معايا فى القضية اتحكم علينا بأقصى عقوبة، ٥ سنين سجن ومائة ألف جنيه غرامة لكل واحد، وفيه ٢٩ غيرنا خدوا نفس الحكم من نفس القاضى فى نفس اليوم: ٢٩/٤، عشان إيه؟ ماعرفش.. مش لاقى مبرر للعقوبة. يمكن عشان ماليش توجه سياسي؟»
باسم المتولى كان له كل الحق أن يظن أنه فى مأمن. ليس له فى السياسة شىء، لا يهتم بها أساسا، فهو موجه نحو الإنجاز والتميز فى حياته الخاصة: البيت، الأسرة، العمل. كان متفوقا فى المدرسة ودخل كلية الهندسة واتخرج مهندس اتصالات. اشتغل. ولتميزه جاءه عرض بالهجرة إلى كندا. وقتها لفتته أمه إلى أنه ولد على تلات بنات وسألته: هو احنا بنربى كده ببلاش؟ مالناش حاجة عندك يعني؟ وباسم حصيف ومحب وبار، فالتفت فعلا، ورفض الهجرة. بقى فى البلد. أحب وتزوج. وبعدين، لإنه مجتهد وطموح ونشيط وشاطر، أراد أن يعجل بعملية التكوين المالى فحصل على عقد فى المملكة السعودية، وسافر. ولكن حياة الغربة لم تكن له، فهو جزء مهم فى أسرة كبيرة تفتقده ويفتقدها - والآن، فى ٢٠٠٧، رزقه الله بطفله الأول. اعتذر للشركة السعودية - وكان قد عمل فيها سنتين - وغادر إلى القاهرة فى نهايات ٢٠٠٨. استمر السعوديون فى دفع مرتبه وهو فى القاهرة على أساس أنه قد يتراجع عن قراره. لكنه كان قد عاد فعلا إلى موقعه الطبيعى وسط أسرته وفى بلده ووجد عملا فى شركة لينك وأوقف شاكرا الراتب السعودى واستقر. وجاء الطفل الثانى فى ٢٠٠٩. وفهم الشريك السعودى السابق أن باسم فعلا لن يعود إلى المملكة فعرض عليه أن يفتح شركة لتطوير البرمجيات فى القاهرة على أن يتولى باسم مسئوليتها كاملة. فرح باسم بالعرض وبالتحدى وفتحت الشركة أبوابها، فى مدينة نصر، فى ٢٠١٠.
ففى بدايات ٢٠١٣ نجد باسم وقد فتح الله عليه فى الشركة التى يديرها فصارت توفر عملا لعشرين من المهندسين والموظفين، وقد استقر هو مع أسرته الصغيرة فى شقة لطيفة بحدائق المهندسين بالشيخ زايد، ورزقه الله بالطفل الثالث، فحمده على ما عطاه وصار يرعى أيضا ملجأ للأيتام فى مُجَمَّعه السكنى، وجمعية للطلاب المغتربين فى مدينة نصر. أهله يسكنون بيتهم القديم فى شبرا، وأهل زوجته فى مدينة نصر. والده كبير السن وبه عدد من أمراض الكبر، وحماته مريضة وتعيش وحدها. وزع يوم عطلته على البيتين: جمعة يصطحب زوجته وأولاده لبيت والده، وجمعة يصطحبهم إلى بيت ستهم لأمهم، يترك زوجته مع أمها بعض الوقت تقوم لها بالخدمات الشخصية وينزل هو لشراء ما يلزم البيت، وقد يمر على جمعية الطلبة المغتربين أو يمر على شركته يكسب بعض الوقت فى العمل فى المكتب الهادئ الخالى.
إلى أن جاء يوم ٢٠ ديسمبر ٢٠١٣ وكان جمعة زيارة مدينة نصر، فركب باسم وزوجته والأولاد الثلاثة السيارة فى الشيخ زايد وذهبوا إلى بيت الجدة. يومها كانت هناك مسيرة للإخوان فى مصطفى النحاس بعنوان «دستورنا ٢٠١٢»، وحدثت اشتباكات بين الشرطة والمسيرة وأعلنت وكالات الأنباء القبض على ٣ من مناصرى د. محمد مرسى. باسم، بعد أن قضى فترة فى زيارة حماته نزل، كالعادة، ليشترى طلبات البيت ويقوم بمشاويره، لن يذهب بالقرب من مصطفى النحاس، وسيعود للغداء فى السادسة. وجاءت السادسة ولم يعد.
زوجته تتصل به: هاتفه غير متاح. تتصل بالأصدقاء: لم يسمع منه أحد. فى النهاية تتصل بأخته. الأخت تتصل بابن عمها تستنجد به، ابن عمها عميد شرطة: مش لاقيين باسم يا أبيه! ابن العم يكلم القسم ــ قسم أول مدينة نصر: باسم المتولي؟ أيوه محجوز هنا. لكن ــ ده ابن عمي! يا باشا انت جاى تكلمنى بعد ما المحضر خلص خلاص.
السيدة والدة المهندس باسم متصورة إن فيه غلطة حصلت، أو بالأدق، إن فيه منظومة ماشية صح، لكن حصل فيها خلل فالمنظومة أخدت ابنها - وبعض المحبوسين معاه ظلم. والحقيقة إن ده مش صحيح، منظومة القهر (أو الأمن إذا أردت) الآن، مثلها مثل كل منظومات أو أجهزة البلد، مختلة بنيويا - بمعنى أن الخلل أصبح جزءا من بنيتها، لن ينصلح إلا بفكها وتركيبها تركيبا جديدا تماما. فمثلا يقولون لنا إن الأمن/القهر موجه ضد الإرهاب، طيب باسم مش إرهابى. يصنفون الإخوان من ضمن الإرهاب، طيب باسم مش إخوان. أحد التوجهات المستترة للأمن/القمع هو ضد «شباب الثورة» والمسيسين، طيب باسم مش من الثورة - شباب أو غيره ومش مُسَيَّس. لكن المنظومة ابتلعته مع كثيرين غيره. حكى لأهله أنه، حين زج به فى عربية الترحيلات، فوجد فيها ما لا يقل عن ثلاثين فردا، بعضهم من القصر، أخبروه أن الضباط كانوا يحصون كم فرد مازال عليهم أن يأخذوه: فاضل خمسة.. فاضل تلاتة.. فاضل واحد: باسم المتولى. وكان الأخير.
ركن سيارته إلى جانب سوبر ماركت «الراية» وراء سراج مول. سيمشى إلى الجمعية ليعطيهم التبرع ثم يعود إلى السوبر ماركت للتبضع. وهو ماشى فى الشارع اتصل برئيس الجمعية يخبره أنه فى الطريق، وما أن بدأ الحديث إلا وجاءته ضربة قوية فى ظهره وخُطِف المحمول من يده. وباسم رجل كبير الحجم، طويل وعريض، رياضى، لم يعتد أن يضربه أحد، قاوم تلقائيا فوجد نفسه محاطا برجال (باللبس المدنى) يضربونه ويلكمونه فى وجهه ويشتمونه وهو يقاوم ويصيح «فيه إيه؟ فيه إيه؟» إلى أن تمكنوا منه وألقوه فى عربية الترحيلات ــ وفى تلك اللحظة فقط رأى ضابطا باللبس الميرى وعلى كتفه نجمتان.
ظل باسم فى حجز قسم أول مدينة نصر إلى أن رُحِّل إلى أبوزعبل فى ١٦ يناير، وكانت أول جلسة له فى ١٨ يناير، وأسقطت النيابة عنه تهم العضوية فى جماعة محظورة، والشروع فى القتل، والشروع فى سرقة سلاح ميرى من ضابط. بقى خرق قانون التظاهر. يقول المهندس باسم: «على كلام القاضى أنا أخدت الحكم ده عشان خرقت قانون التظاهر، طب يا باشا مش الكلام ده على المتظاهرين حضرتك؟ طب أنا ماكنتش متظاهر أصلا.. دانا ممسوك لا مؤاخذة يعنى بشبشب بلاستيك بتاع البيت، دانا حتى كنت جوه عربيتى وأول ما ركنت ونزلت ضربونى وشالونى.. هو أنا هتظاهر جوه عربية راكنة إزاى بس؟».
والدة باسم تقول إن الكثير من المحبوسين مع ابنها فى أبو زعبل من «داعمى الشرعية» فعلا، وهم يقرون بذلك بوضوح ولهم موقف هم مرتاحين له. تقول إن أمهاتهم وزوجاتهم تتحدثن عن أتعاب المحامين التى تصل إلى الستين ألفا وأكثر، وعن الغرامات والكفالات ببساطة ويسر، يقولون: «هم بيتصرفوا». «هم» مين؟ يقولون زمايله يتكفلون بكل هذا ولا يطلبون منهن شيئا. تقول الأم إنها تشعر أن المحامين عايزين ياخدوا أحكام، وان القاضى فى أول جلسة (المستشار أحمد مجدى) كان يبدو غير مقتنع بالقضية، وطلب أن يرى شهود الإثبات (٢ من أفراد الشرطة المصابين إصابات طفيفة) فهاج عليه المحامون وردوه فقبل الرد وأصبحت القضية أمام قاض جديد. تشكو لى من أن الأمهات والزوجات - فى الوقفة التى يقفها الكل على المدخل فى انتظار الزيارة - يلومونها لجزعها على ابنها. يقولون «ابنك هذا وسام على صدرك»، فتقول «بس ابنى لا يدعم شرعيتكم. ابنى متاخد غلط»، فيغلطونها لأن عليها أن تعتبر أن كونه متاخد أصلا شرف. ويطلب منى المهندس باسم أن أسأل: «هل هم عارفين بيعملوا فينا إيه؟ هل فاهمين ان الشباب الصغير اللى هنا واللى مالوش أصلا توجه سياسى بيتم استقطابه سياسيا (للإخوان) هنا؟».
طبعا الكل عارف من فترة إن الناس بتتاخد غلط، ويلفق لها التهم، وتاخد فيها أحكام. المثير هنا إن المهندس باسم المتولى مفترض انه ينتمى للقطاع الحاكم فى البلد الآن. فهو من أسرة (سواء أسرته أو أسرة زوجته) كلها من الجيش أو البوليس أو الطيران. أستمع إلى أخته ترص الرتب والمناصب بألفة: عميد طيار كذا، اللواء رئيس مجلس مدينة كذا، أركان حرب كذا، مشارك فى الضربة الجوية، عميد شرطة - حتى يبدو لى وكأن باسم هو الوحيد المدنى فى هذه الأسرة. وبحسب ما أراه فهو إنتاج جميل لها، وهو مثال ــ فى الواقع ــ لنوع من التلاقى بيننا، فهو يمثل المواطن اللى النظام (حتى النظام القهري) مفروض يكون عاوزه، واللى البلد فعلا محتاجاه ــ بصرف النظر عن السياسة: راجل شاطر فى شغله، منجز، شغله فى قلب التكنولوجيا المعاصرة: مطور برامج، جاب فلوس للبلد من بره، «أنتربرنير» فتح شركة وشغل ناس وماطلبش من حد حاجة، تزوج وأنجب فجعل له امتدادات مستقبلية، يرعى أهله ويبر بهم ويثمن ماضيه، عنده ضمير وإحساس بالمسئولية ويرضى هذا برعاية بعض الأيتام والمغتربين. وليس له اتجاه سياسى. فيه أحسن من كده إيه؟ بيهددكم فى إيه ده؟
الحقيقة المؤسفة إن المسألة لم يصبح لها منطق. باسم لا يهددهم، باسم ابتلعته المنظومة المختلة. والمنظومة - بخللها - أو لنقل حتى خلل المنظومة ذاته أصبح من القوة بحيث لا تتمكن حتى أسرة كهذه ــ من جسد النظام ــ أن تنقذ ابنها.
قلت لأمه معلش، إحمدى ربنا إن ابنك عايش، وإنه راجل، وشاطر وذكى، هيعرف يستوعب الموقف ويتعامل معاه ويتعلم منه، بس حاسبى على أبوه المريض، وما تقلوش الحمل على أخته الصغيرة.
تقول الأخت إن الضباط فى الأغلب يسيئون معاملة الأهالى، ينهرونهم ويدفعونهم. تقول نقف فى الشمس بالساعة. تقول: رجل كبير، رايح يشوف ابنه، تعب فقعد على سور منخفض من الطوب. جاء الضابط وأمره بالوقوف. قال له يا ابنى أنا تعبت، بارتاح بس شوية. قال له الضابط: لو ماوقفتش مش هتدخل الزيارة. أما زوجات وأمهات داعمى الشرعية فغالبا ما يتفادون الاحتكاك بالضباط ويتعمدون الاحتكاك بالشباب المجند الغلبان وتصل دعواتهم ععلى العساكر إلى حد الدعوة بأن يصرف الواحد منهم راتبه الشحيح على دواء للسرطان.
عودة إلى المهندس باسم المتولى، هذا بعض ما ترتب على حبسه:
والده مرض وجاءه نزيف ودخل المستشفى وجاءته جلطة وفقد البصر فى إحدى عينيه.
اخته، مهندسة فى منتصف العشرينات، صرفت كل مدخراتها على مرض الوالد.
والدة باسم تتحمل تكاليف ومشقات جديدة تماما عليها، ما بين زيارات السجن وأتعاب المحامين.
الشريك السعودى أغلق شركة البرمجيات وسحب أمواله من مصر.
العشرين مهندس وموظف بالشركة أصبحوا بلا عمل.
القيمة المتراكمة التى اكتسبتها الشركة وإمكانياتها المستقبلية ضاعت على اقتصاد البلد.
توقفت تبرعات باسم عن ملجأ الأيتام ودار الطلبة المغتربين.
الأثر على زوجته وأولاده الصغار لن أتحدث عنه.
هذه هى الآثار المباشرة التى ندركها الآن، وهى ستتعاظم بمرور الوقت. وكما تقول والدة باسم هم أحوالهم أحسن من غيرهم: فيه ناس انطردت من بيوتها وشردت.
معلومات وملحوظات متناثرة:
• هذه القضية رقم ٥٧٥٠٦ لسنة ٢٠١٤ جنح مدينة نصر أول، وفيها ١٥ شخص زائد باسم. فيها شباب مهندسين وشباب من الجامعة البريطانية والجامعة الأمريكية.
• محبوس مع باسم شاب طبيب أسنان مجند فى الجيش، يقولون إن وكيل النيابة فاهم إنه عضو فى جمعية «رسالة» وأن هذه الجمعية توفر الباصات لمسيرات الإخوان.
• القصر فى هذه القضية أخلى سبيلهم بعد التحقيق الأول بكفالات ألف جنيه للفرد.
• جلسات المحكمة تتم أحيانا يوم أو يومين قبل موعدها المعلن، فبالطبع لا يكون المحامى أو الأهل موجودين، وتنتدب المحكمة محاميا موجودا، ومحامى باسم المنتدب لم يكن يعرف عن القضية ولا موكله أى شىء فترافع مرافعة خطابية قال فيها إن والد باسم متوفى (!) وإن ابنه مولود وهو فى السجن (!)
• يبدو ان أصبح عندنا «مينو» من التهم الجاهزة تلصق أولا بكل المواطنين الذين يقبض عليهم الأمن، ثم تنتقى النيابة ما تراه لايق على كل شخص عند التحقيق. وبالمثل فمحامو الانتداب عندهم مينو من المرافعات الجاهزة وفى الأغلب لا يتاح الوقت لملاءمة الخطاب على المتهم.
• الدنيا شكلها سخيف جدا. ولكن علينا أن نواجه الواقع، بكل قبحه وقذارته، وإلا لن نتمكن من تغييره. فلتتكشف لنا إذن أوجه القبح المؤلمة وما ضاقت إلا وفرجت.