بدأ الأسبوع بأحداث الإسكندرية والسويس، وسَبت العباسية، وساد القلق المشهد السياسى: القلق من المجلس العسكرى وتصريحاته، القلق على اعتصام التحرير واستمرار فاعليته وروح الثورة فيه، القلق من علاقة القوى الوطنية بعضها ببعض ومن انقسام الصفوف والتراشق.. وكان قلق هذا الأسبوع، فى أغلبه، قلقا من وعَلَى عناصر تنتمى إلى أو محسوبة على الثورة ــ يعنى لم أجدنا نفكر كثيرا هذا الأسبوع فى الفلول وأمريكا وإسرائيل وأعدائنا الواضحين، بل كنا على الأغلب منشغلون بمشكلات الحال الداخلى. وتقدم الكثيرون يبذلون جهودا كبيرة لتوضيح الرؤى وإرساء التوافقات ومحاولة بلورة المواقف وتحديد وإبراز المساحات المشتركة.
وفى إطار هذه التحركات كان من حظى أن أجدنى وجها لوجه، أكثر من مرة، مع العنصر الأهمّ فى المشهد كله.
يوم الإثنين ٧/٢٥، وفى المؤتمر الصحفى الذى أدليت فيه بشهادتى حول أحداث العباسية، التقيت بأم أحمد جابر محمود، ١٩ سنة، طالب دبلوم زراعة، احتُجز فى شارع فيصل يوم ٣ فبراير مع صديقه محمد أمين جمال، واتُّهِما بحمل المولوتوف وخرق حظر التجول وحكم عليهما بخمس سنوات سجن وهما الآن فى سجن الوادى الجديد. قالت: «أنا مش طالبة غير العدالة. دول حتى اللى بيدولهم وقف تنفيذ بيبقى لهم صحيفة جنائية. لمصلحة مين تبقى الشباب دى كلها لها صحيفة جنائية؟ هم بيعملوا فينا كده ليه؟ أنا مش طالبة غير العدالة لابنى».
وحين طلَبَت منى الصديقة الدكتورة رباب المهدى أن أكون محضر خير فى اجتماع القوى السياسية الذى عقد فى ضيافة جريدة «الشروق» يوم الثلاثاء ٧/٢٦، وأثناء الاستعداد للاجتماع، شرفت بمقابلة الأستاذ على حسن، والد الشهيد مهاب، وجلست معنا الآنسة رحمة، أخت الشهيد. ووجدت ــ كما أجد الآن ــ الكلمات تخوننى. نعرف أن الأعمار بيد الله ولا حول ولا قوة إلا بالله، ولكن مهاب قَتَله شخص، بنى آدم: جندى أو ضابط، رفع سلاحه وصوبه إليه فأصاب الشاب برصاصتين فى رقبته وهو على رأس شارعهم فى شبرا بعد أن عاد مع أبيه من التحرير فى ٢٨ يناير. أجلس صامتة أستمع، فليس عندى ما أقوله للأب الذى يبدى رباطة جأش أجزع لتصور كم تُكَلفه، ولا للفتاة الهادئة التى تجاملنى من حين إلى حين بمحاولة ابتسامة تتبدى كنور غريق فى أعماق عينيها ــ لا تقوى على الوصول إلى الشفتين. لا أجد ما أقوله، لكن أبا مهاب ليس بحاجة إلى كلماتى، عنده كلماته هو، يقولها: «أعز الله مهاب بالشهادة، وأعزنى بكونى أبيه».
فى آخر الليل، وفى برنامج الأستاذ يسرى فودة، تريعنى مداخلة وليد الطهطاوى، أخى الشهيدين هدى وإبراهيم الطهطاوى، وهو يصف كيف يستمر البعض فى ترويعه والضغط عليه ليتراجع عن تعقب قتَلة أخته وأخيه، وعن قرار السماح بتشريح جثمان أخته.
وفى الصباح أفتح الإيميل فأجد شهادة أختى، الدكتورة ليلى سويف، فى موضوع الشاب عمرو البحيرى، وهى الشهادة التى كتَبَتْها فى نهاية فبراير، وتعيد تحديثها وتعميمها من وقت لآخر لأنها، كما تقول، لن تمل من تكرارها إلى أن يرفع الظلم الذى وقع عليه. فها هى:
«مساء الجمعة ٢٥ فبراير كنا معتصمين فى شارع قصر العينى أمام مجلس الشورى. وفى الساعات الأولى من فجر السبت قامت قوات من الجيش والشرطة العسكرية بفض الاعتصام بالقوة. فى أثناء انصرافنا رأيت عددا من العسكريين يجرون شابا على الأرض ويوسعونه ضربا ورأيت أن الشاب مصاب وينزف، كان هذا الشاب ــ كما عرفت فيما بعد ــ هو عمرو عبدالله البحيرى.
سحبوا عمرو على الأرض واختفوا فى اتجاه ميدان التحرير، وتوقفت ومن معى وأصررت على أنى لن أبرح مكانى حتى يعيدوه إلينا.
كان يقف إلى جوارى لواء، أعتقد أنه وقف هكذا ليحمينى من الضرب، ربما لأننى كنت من أكبر الموجودين سنا.. هدأنى سيادة اللواء، وأمر الضباط الأقل رتبة بإحضار عمرو، فامتثلوا لأمره على مضض، وحين حضر وجدته مصابا فى وجهه إصابة بالغة.
تركوه لنا، فسرنا معا فى شارع قصر العينى، وكان معنا د. شادى الغزالى حرب، والأستاذ تقادم الخطيب، وابنتى منى، وابنى علاء وزوجته منال، والأستاذ أحمد عبدالله (قريب عمرو) الذى كان يعاون قريبه المصاب على السير. وأثناء سيرنا توقفت بجوارنا سيارة ملاكى بها اثنان من الشباب (للأسف لا أعرف اسم أى منهما حتى اليوم)، عرضوا علينا المساعدة فى توصيلنا إلى أى مكان، فطلبنا منهم اصطحاب عمرو وأحمد إلى المستشفى. ثم تركنا د. شادى والأستاذ تقادم، بينما انصرفنا، أنا وعائلتى، سيرا على الأقدام. بعد دقائق اتصل بى الأستاذ تقادم وأبلغنى أن ضباط الجيش قد أوقفوهم مرة أخرى وأنزلوهم من سيارة د. شادى، فعدت إلى شارع قصر العينى، ووجدت كلا من شادى حرب، وتقادم الخطيب، وعمرو، وأحمد، والشابين ــ وكان كل ما فعلاه هو تقديم المساعدة لجريح ــ مقبوضا عليهم جميعا وحولهم عدد ضخم من ضباط الجيش، يوجهون إليهم بنادق آلية، ويسيرون بهم وقد أجبروهم على رفع أيديهم إلى أعلى، وكانت إحدى السيدات ــ واضح أنها تسكن شارع القصر العينى ــ تصرخ من نافذتها «بتضربه ليه؟ اقبض عليه لكن ما تضربوش، هو احنا رجعنا لأيام الذل تانى؟»
حوالى الساعة الرابعة والنصف صباحا اتصلت بالأستاذ تقادم وعلمت منه أنه قد أفرج عنه هو ود. شادى، أما الأربعة الآخرون فكانوا لايزالون محتجزين، ويدَّعى الضباط الذين يحتجزونهم أنهم وجدوا سلاحا (قيل إنه طبنجة صوت) بحوزة عمرو.
السبت ٢٦ فبراير ٢٠١١، وبعد أن عرفت بالبيان ٢٣ الذى أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وأعلن فيه أنه سيتم الافراج عمّن قبض عليهم فى ذاك الصباح، اتصلت بأحمد كى أطمئن فابلغنى أنه قد تم الإفراج عنه للتو، وأن الشابين اللذين قدما لنا المساعدة قد أفرج عنهما قبل ذلك، أما عمرو فلا يعرف عنه شيئا.
اتصلت بأصدقاء أعرف أنهم يتصلون بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة، وكتبت وأعطيتهم شهادتى التى أكدت فيها أن عمرو لم يكن يحمل أى شىء يمكن أن يحتوى طبنجة، بل كان محتجزا أصلا لدى الجيش فلو كان معه سلاح لما تركوه. وقد وصلت الشهادة، وطمأننى صديق أن عمرو سيفرج عنه خلال ساعات. ثم فوجئنا جميعا بصورة عمرو فى نشرة الأخبار على انه ضمن مجموعة من «البلطجية» قبض عليهم الجيش وستتم محاكمتهم عسكريا.
أرسلت «فاكس» مساء الأحد ٢٧ فبراير إلى مكتب النائب العام بشهادتى، كما أرسلت شهادتى إلى المجلس الأعلى للقوات المسلحة، وذهبنا، أنا والأستاذ تقادم الخطيب، إلى مكتب النائب العام صباح الإثنين ٢٨ فبراير، وتقدمنا ببلاغ ضمناه شهادتنا حول وقائع القبض على عمرو البحيرى. وفى هذه الأثناء كان الأستاذ محمد البحيرى ــ أخو عمرو ــ قد ذهب إلى الشرطة العسكرية مساء الأحد ٢٧ فبراير، فأبلغوه أن عمرو فى حوزة النيابة العسكرية وقد حددت له جلسة لمحاكمته يوم ١٢ مارس.
يوم الثلاثاء ١ مارس فوجئنا جميعا أن عمرو قد حوكم، وصدر حكم بحبسه خمس سنوات.
تقدم الأستاذ عادل رمضان المحامى بمذكرة إلى الحاكم العسكرى ــ ضمَّنها شهادتى ــ يلتمس فيها عدم التصديق على الحكم، والإفراج عن عمرو أو إعادة محاكمته. وكان النائب العام قد أحال البلاغ الذى قدمته إليه إلى النيابة العسكرية، فاستمعت إلى أقوالى، ومع ذلك تم التصديق على الحكم. نحن الآن فى انتظار نقض الحكم، هل يستمع إلينا أحد بعد كل هذه الشهور؟».
سوف يكون هناك من يستمع
ذكرت هنا ــ فى هذا المقال القصير ــ ثلاثة شبان محكومين عسكريا، وثلاثة شهداء. وعندنا فى مصر الآن نحو ألف شهيد، وأربعة آلاف مصاب، وأحد عشر ألف محكوم عسكريا، وألف مفقود. هؤلاء هم العنصر الأهم فى حراكنا اليوم.
كثيرا ما يطالب المشتغلون بالشأن العام أنفسهم بالابتعاد عن التفاصيل ليتمكنوا من رؤية الصورة الكلية كاملة. لكننا هنا مطالبون، فى الحقيقة، بما هو أعقد: علينا فى نفس اللحظة، وباستمرار، أن تكون أذهاننا منتبهة للصورة الكبيرة، وقلوبنا منتبهة للتفاصيل، وأن ندرك العلاقة بين هذه وتلك.
وأظن أنى لهذا وجدت هذا المقال يلح علىّ اليوم، ونحن متجهون إلى هذه الجمعة: جمعة لم الشمل، جمعة وحدة الصف، جمعة روح الثورة.. فأبناؤنا، شبابنا، هم روح الثورة.
تتحرك القوى السياسية بما تراه فى مساراتها المختلفة، ويعمل الخيِّرون والوطنيون على تجميعها، وإصلاح ما صدعته الخلافات فى بنيان الثورة. وهذا أساسى وضرورى، لكنه ليس كافيا.
شىء بديهى، لكن ككثير من البديهيات، يصح نفكر نفسنا بيه بوضوح من حين لآخر: أن فى النهاية، كل الدساتير والقوانين والمجالس والهيئات التشريعية والأحزاب والتكتلات ــ القصة دى كلها، موجودة علشان تنظم إزاى الناس تعيش مع بعض.
الميدان، نواة الثورة، بتمحوره مؤخرا حول أسر الشهداء، يرسل إشارة واضحة جلية: «لا تنسوا لب الموضوع وقلبه، فالثورة ليست غاية، الثورة وسيلة، غايتها أن يعيش كل مصرى حياة حرة كريمة فى بلده».
الناس، والميدان، كالعادة، «عارفين» طريقهم. هم البوصلة التى على الجميع الاهتداء بها. اليوم، إن شاء الله، نرى الروح المصرية الجماعية الغيرية تعود إلى الميدان، ونرى وحدة الهدف، والإصرار على البدء فى الطريق نحو الحرية والعدالة الاجتماعية.
هى الأهداف العليا للثورة ــ لكنها تنتفى إذا استمر مصرى واحد يعانى من معاملات وإجراءات كابوسية، كانت من المفجرات الرئيسية للثورة، ومفروض أن البلد كله خرج منها.
لهذا يصر الناس على حق الشهداء،
ولهذا يصر الناس على حق المصابين،
ولهذا يصر الناس على متابعة المفقودين،
ولهذا يصر الناس على بطلان المحاكمات العسكرية للمدنيين