سلف ودين - أهداف سويف - بوابة الشروق
الخميس 26 ديسمبر 2024 11:21 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سلف ودين

نشر فى : الأربعاء 29 أغسطس 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الأربعاء 29 أغسطس 2012 - 8:00 ص

على شارع العروبة، إلى يمينك وأنت تتجه إلى مطار القاهرة، بعد أرض المعارض، وقريبا من مبنى هيئة الاستثمار، مبنى كبير، مشيد على الطراز المختلط الغريب الذى يتصور أنه يعبر عن فخامة ورسوخ الدولة ــ لم ألحظه إلا مؤخرا، وعلى ما انتبهت لم أتمكن من قراءة سوى «صندوق.. المشروعات الصغيرة..».

 

ودق فى ذهنى ناقوس صغير، يا للمفارقات والصُدَف: قبل أن أرى هذا المبنى بعدة أسابيع كنت، فى ١٨ و١٩ مايو، فى لندن، فى المؤتمر السنوى لـ«البنك الأوربى لإعادة الإعمار والتنمية»، وهو البنك الذى يستعد الآن لدخول مصر ليمول البنوك والشركات والجمعيات الكبيرة لتمول بدورها المشروعات الصغيرة والمتوسطة (SMEs) ــ وهى نوعية المشروعات التى تجد اليوم رواجا شديدا فى سوق التمويل والقروض. أنا لست من مرتادى مثل هذه المؤتمرات، لكن صديقا عزيزا رشحنى لأحدث بعض المؤتمرين عن الثورة المصرية، وقبلت الدعوة بدافع الواجب من ناحية ــ واجب تقديم ثورتنا والحديث بها ــ وبدافع الفضول من ناحية أخرى ــ كيف يكون مثل هذا المؤتمر، ولماذا يدعون كاتبة مصرية للحديث عن الثورة؟

 

ذهبت إلى المبنى الفاخر جدا، فى قلب حى المال فى العاصمة البريطانية، ومررت فى الإجراءات الأمنية، وفزت بالبطاقة البلاستك التى تتيح المرور من الأبواب، وشربت قهوتى وسط جموع من الرجال يرتدون البدل الرمادية وربطات العنق الأنيقة المحافظة ونساء يرتدين الكعوب العالية جدا والفساتين والتايورات التى تعلن «أنا امرأة بشدة، وقوية بشدة»، والكل يحمل أوراقا وجداول ومقارنات والكل يتبادل البيزنس كارد، ثم ذهبت إلى مكان مداخلتى، وقرأت على الحضور صفحتين من كتابى حول القاهرة والثورة وبدأت فى الإجابة عن الأسئلة المعتادة حول «أوضاع المرأة» وهل وجب الخوف من «حكومة إسلامية متطرفة» ثم تطرقنا إلى الاقتصاد فقلت أننا ــ فى الثورة ــ أملنا أن يتاح لنا البحث فى نماذج مختلفة لإدارة البلاد واقتصادها وربما المساهمة فى ابتكار نموذج جديد تماما، وخصوصا أننا نرى فشل سياسات السوق الحرة فى دعم الأشكال المجتمعية التى ترتضيها الشعوب لأنفسها ــ حتى فى الغرب صاحب وداعم أيديولوجية إطلاق حرية السوق، وقلت إن شباب مصر يراقبون تجارب أمريكا اللاتينية وأيسلندا وجنوب إفريقيا باهتمام بالغ وأنهم على اتصال بنظرائهم هناك. عزموا علىّ بكروت البيزنس بتاعتهم.

 

«البنك الأوروبى لإعادة الإعمار والتنمية (EBRD)»، تم إنشاؤه عام ١٩٩١ ليمد بلاد أوروبا الشرقية بالموارد والأدوات المالية التى تمكنها من الخروج من المنظومة الاقتصادية السوفيتية المنهارة والاندماج فى اقتصاد أوروبا الغربية، وكان هدف البنك المعلن هو «دعم انتقال بلاد وسط وشرق أوربا إلى اقتصاد السوق»، وهو يحتسب من مزاياه أنه البنك «الانتقالى» الوحيد فى العالم، وتزخر أدبياته بجمل تقريرية مثل: «وقد أصبح واضحا أن تنشيط ومساندة دور القطاع الخاص كأساس لاقتصاد السوق الحر المفتوح هو عامل محورى فى عملية التحول إلى الديمقراطية» و«تتطلب هذه المرحلة الانتقالية مجموعة هائلة من إجراءات إعادة الهيكلة» ودَخَل البنك منذ إنشائه فى «ميادين إصلاح البنوك، وتحرير الأسعار، والخصخصة.. وإقامة المؤسسات اللازمة لدعم أسس اقتصاد السوق». وأتى تمويل البنك من ميزانيات ٦٣ دولة (كان من بينها إسرائيل، ومن البلاد العربية مصر والأردن وتونس والمغرب) وحمل النصيب الأكبر من التمويل الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان.

 

وبعد عشرين عاما من إنشائه أدرك البنك أنه قد حقق أهدافه، ودخلت أوروبا الشرقية فى المنظومة الاقتصادية الغربية.

 

لكن البنك يعمل به ألف وخمسمائة موظف، هو كيان بحاجة لأن يضمن بقاءه ــ أى بقاء نفسه. ماذا يفعل إذا؟ قام البنك بإدخال بنود مكملة إلى لائحته سمحت له بأن يمد نطاق تعاملاته إلى منطقة «جنوب وشرق المتوسط»، وكان المؤتمر السنوى الذى تصادف أنى حضرته يحتفى بهذا الامتداد المنتوَى، والذى رصد لميزانية العام الأول فيه (٢٠١٤) مبلغ اثنين ونصف بليون يورو.

 

لم يقتصر الحضور على العاملين فى البنك، وإنما كان هناك أيضا ممثلين للمجتمع المدنى فى البلاد التى يتعامل فيها البنك ــ وكانت هناك الصحافة، فالتقطتنى صحفيتان مصريتان شابتان (أرسلتهما منظمة «بانك ووتش» التى تراقب ممارسات البنوك) واصطحبتانى إلى جلسات أخرى فى المؤتمر حيث حاولنا ــ نحن النساء الثلاث ــ أن نثنى البنك عن المضى فى خططه! كان موقفا هزليا إلى حد كبير، قلنا لهم إنه إن كان البنك حقيقة يؤمن بالديمقراطية (بنك يؤمن!) فلماذا يحاول الدفع بنا إلى أيديولوجية إقتصادية لم نتخذ قرارا ديمقراطيا بأننا نريدها؟ بل لقد عبر الشعب المصرى صراحة عن كرهه لسمات أيديولوجية السوق الحرة هذه من خصخصة وإعادة هيكلة إلخ.. إلخ. فى نهاية الجلسة قال لنا مسئول رفيع: «أجدنى مضطرا أن أصارحكم بأن البنك آتٍ إلى مصر لا محالة ــ» وهو آت فعلا، يوم ٤ سبتمبر، ليعقد لقاءات مع «ممثلى الحكومة، والقطاع الخاص، وأعضاء المجتمع المدنى من منظمات أهلية، ونشطاء، ومدونين، ومثقفين» فى سياق صياغة تفاصيل سياسته فى المنطقة. وقد أكدت كبيرة الاقتصاديين فى البنك: «نأمل أن تكون الانطلاقه فى القريب العاجل حيث بدأت بعض الأنشطة التقنية والاستعدادات للعمل فى السوق المصرية من خلال بعض المشروعات التى يقوم البنك بدراستها لتمويلها للقطاع الخاص».

 

البنك ليس بمجمله شيئا سيئا، فهو يكرس التعددية وتداول السلطة والحفاظ على البيئة ــ لكنه يدفع بالاقتصاد إلى شكل محدد سلفا، أى أن له أجندة أيديولوجية واضحة. وكانت إحدى الحجج التى سقناها فى مايو أن البنك ينتوى العمل فى مصر بناء على دعوة وجهتها له الحكومة المصرية (متمثلة فى الدكتورة فايزة أبوالنجا) فى عام ٢٠١٠ (وهى الدعوة التى استند إليها البنك فى إقناع الدول المساهمة بوجوب تغيير لائحته ليتمكن من توسيع النطاق الجغرافى لأعماله)، وأن المصريين أطاحوا بالحكومة وبالنظام فلم تعد الدعوة قائمة.

 

والآن، وقد أصبح عندنا وزارة، وحكومة منتخبة ديمقراطيا، تبدأ الهجمة الاقتصادية علينا، وفى طليعتها ممثلو البنوك والهيئات المالية الدولية، يعرضون قروضا وتمويل وخدمات (أشهرها اليوم قرض الـ ٤.٨ بليون من البنك الدولى، لكنه ليس الوحيد). وكنا نتوقع من الحكومة ــ هى ليست حكومة الثورة لكنها على الأقل ليست حكومة نظام ما قبل الثورة ــ أن تكون مستعدة، تكون أجرت نقاشات واسعة مع الاقتصاديين المصريين، طرحت على الشعب أسئلة وبدائل، مثلا، لكننا نجد، للأسف، استعدادات من نوع آخر، فيبدو أن مسألة من دعى من للحضور إلى مصر قد حُلَّت، ننظر فنجد مؤسسات تخلق، واتفاقيات تبرم، كلها من شأنها أن تكون فى وضع استقبال واستيعاب جيد للأموال الآتية، فنرى فى أول يوليو، حسن مالك، رئيس الجمعية المصرية لتنمية الأعمال «ابدأ»، والمستشار الاقتصادى لحزب الحرية والعدالة، يكشف عن إنشاء مؤسسة لتمويل ودعم المشروعات الصغيرة والمتوسطة، برأسمال مائة مليون جنيه ممول من مساهمات عدد من أعضاء الجمعية. وفى منتصف يوليو يكشف الدكتور إسلام عزام، العضو المنتدب لشركة صناديق استثمار المشروعات الصغيرة والمتوسطة التابع للهيئة العامة للاستثمار، عن أن الشركة بصدد إطلاق صندوق برأسمال مائة وخمسين مليون جنيه لتمويل المشروعات الصغيرة والمتوسطة. وفى نهايات أغسطس، وفى إطار الاتفاقية المبرمة مع البنك الدولى، والتى يقوم بتنفيذها الصندوق الاجتماعى للتنمية، تم توقيع ثلاثة عقود بين الصندوق الاجتماعى للتنمية وبنك التنمية الصناعية والعمال المصرى، ويبلغ إجمالى التمويل المقدم من الصندوق للبنك لتلك العقود مائة وخمسين مليون جنيه. ولنتذكر أن البنك الأوروبى يمول البنوك والجمعيات القائمة وذات رأس المال والتى تمول المشروعات الصغيرة والمتوسطة.

 

الشعب واع، الشعب مفتح، الشعب فاهم. الشهب مركز حاليا على قرض البنك الدولى بالـ٤.٨ بليون: «التيار المصرى» رفض الفكرة، و«الحرية والعدالة» أيضا، وانضمت عدد من الحركات الثورية لحركة «مينا دانيال» فى الدعوة لمسيرة اليوم الأربعاء، الساعة الخامسة والنصف عصرا من أمام مبنى البورصة وحتى مبنى مجلس الوزراء رافضين القرض.

 

كان أملنا أن يقرأ الرئيس المنتخب وحكومته مزاج الشعب ويبنوا سياساتهم الاقتصادية استجابة له. الشعب قام بثورة طلبا لاقتصاد قوى وعدالة اجتماعية فى توزيع عوائده، وهو مستعد لتحمل مسئولية وعبء بناء هذا الاقتصاد. من المحزن إذا أن نجد رئيس الوزراء يدعونا إلى أن نرى «موافقة» البنك الدولى على إقراضنا كام بليون على أنها شهادة كويسة فى حقنا («الاقتراض من البنك الدولى يعطى شهادة ثقة وسلامة وعافية للاقتصاد المصرى ومصداقية أمام العالم»). من المحزن أن ينحصر النقاش حول القروض فى مدى تيسير شروطها. يا دكتور البنك شغلته، السبب الوحيد لوجوده، هو إنه يسلفك، وممكن يسلفك بدون فوائد كمان، لإن الفوائد، وحتى مبلغ القرض نفسه، لا تهمه، ما يهمه هو أن يعيش، ويرتدى موظفوه ربطات العنق الأنيقة، ولهذا فهو مطلوب منه أن يكون له تأثير عليك، أن يربطك بسياسات اقتصادية ومالية تخدم مصالح مموليه، وتجعلك أسيرا لهم. يعنى بدلا من أن يأتى المستعمر بجنوده ومعداته ويحاربك ويحتلك ويسير اقتصادك على هواه، يظل فى داره، ويقرضك ويمولك ويسير اقتصادك على هواه. والمستعمر اليوم ليس دولة بعينها، بل هو تكتل من المصالح، مصلحتك ليست جزءا منه. أو لأ، لنكن دقيقين، تصبح مصلحة جزء صغير من مجتمعك مرتبطة بمصلحة التكتل ــ وبالتالى معادية لمصلحة الشعب. كانت هذه سمة جمال مبارك ومَن حوله، وهى سمة كل الحكام والمنتفعين الذين يبيعون شعوبهم وبلادهم للاستعمار الاقتصادى الجديد لقاء أن ينضموا هم وأولادهم إلى لابسى ربطات العنق الأنيقة.

 

إشكالية القروض، والقروض المشروطة، والقروض ذات التبعات السياسية، تقسم البلد بين من يقررون بانهزامية أو بانتهازية أن الاقتصاد المصرى لن تقوم له قائمة بدونها، ومن يقررون بطموح لانهائى أن مكان الاستثمار الأجنبى هو فى الشراكة معنا فى مشروعات حسب رؤيتنا وحسب مصلحة بلادنا. يا دكتور مرسى، الحكومة المنتخبة تمثل الشعب، والشعب يكره البنك الدولى ومن على شاكلته.

التعليقات