تدور النقاشات هذه الأيام داخل مجلس النواب حول ما تقوم به لجنة الإسكان بالمجلس من دراسات لتعديلات مزمع إجراؤها على قانون البناء الموحد 119 لسنة 2008 بغرض سد ثغراته وإضفاء الفاعلية والواقعية على مواده، وكان أن جمعتنى مع الدكتور محمد عبدالغنى عضو لجنة الإسكان بمجلس النواب ندوة عقدها المركز المصرى لدراسات السياسات العامة حول تعديلات القانون، وقد قدم الدكتور عبدالغنى رؤية لجنة الإسكان بالمجلس النيابى والتى تأسست على السعى لحل ثلاث اختناقات ــ على حد تعبيره ــ تواجه البناء فى مصر حاليا ولا تتناسب مواد القانون الحالى مع توجهات فك تلك الاختناقات التى تمثلت فيما يلى:
الاختناق الأول: الإشكالية القائمة بين الهيئة العامة للتخطيط العمرانى وبين المحافظات حول اعداد المخططات الاستراتيجية للمحافظات واعتماد الأحوزة العمرانية، والاتجاه بمقترح أن تتولى كل محافظة إعداد مخططها الاستراتيجى واعتماد الأحوزة العمرانية وفى حال وجود ملاحظات ترفع للجنة عليا بلجنة الإسكان للبت فى الأمر.
الاختناق الثانى: يتعلق بتراخيص البناء وكيفية وسرعة إصدارها، وما تشكله من دخل غير رسمى للمختصين بهذا الأمر فى المحليات، والاتجاه نحو استحداث دور للمكاتب الاستشارية لتراجع مستندات الترخيص وبمجرد اعتماد المكتب الاستشارى للمستندات خلال ثلاث أسابيع يقوم الحى بإصدار الترخيص خلال شهر.
الاختناق الثالث: القدرة على البناء فى الريف فى ظل عدم تحديد القانون الحالى اشتراطات بناء داخل القرى الأمر الذى يطرح التوجه بالسماح ببناء دور أرضى ودورين علوى مهما كان عرض الشارع بالقرى والكفور والنجوع.
إن هذه التوجهات الثلاثة تستوجب إن لم تثر الهواجس حول ما قد يؤول إليه العمران والمعمار فى مصر، فهى تثير حفيظة كل مختص ومهتم بالتخطيط العمرانى فى هذا البلد، فإن نكون جادين فى إيجاد حلول للإشكاليات القانونية فلابد أن بابا لحل بعض جوانب المشكلة الإسكانية ومشاكل البناء بما تعد خطوة على طريق إصلاح منظومة البناء فى مصر، والواقع أنه يحسب للجنة الإسكان بمجلس النواب حرصهم على الاستماع إلى العديد من الآراء وعقد الكثير من اللقاءات، ولكن سيحمد لهم كثيرا أن نجد خلاصات وتوصيات تلك اللقاءات ذات أثر فى رؤيتهم وتأثير فى مقترحاتهم، فالأمر يتعلق فى كثير من جوانبهم بخبرة أهل الاختصاص قبل توجهات أهل التمثيل ومنهم مجموعة ليست بالقليلة من ذوى الاختصاص.
***
فى هذا المقال أفند مقترح اللجنة الخاص بفك الاختناق الأول والداعى إلى اختصاص كل محافظة بإعداد مخططها الاستراتيجى، وأطرح بعض الآراء الاختصاصية بناء على خبرات أكاديمية وميدانية، أضعها إيمانا بأن توجه الدولة وقيادتها هو السعى نحو عمل جذرى طالما شمر لمواجهة مشكلة ما خاصة إن كانت تشريعية كفيلة بضبط إيقاع العمل فى مجال ما.
فقد تعدت الكتلة العمرانية المبنية حاليا على أرض الواقع معظم كردونات المدن والأحوزة العمرانية الحالية لجميع التجمعات العمرانية بما فيها القرى ومعظم توابعها، وفى العديد من محاولات اعادة ترسيم الأحوزة حتى للقرى كان التحدى الأعظم هو كيفية ايجاد توازن بين امتداد الكتلة العمرانية الواقعى وبين توجهات الحد من امتدادها على الأراضى الزراعية، وما بين توجه الدولة ممثلة فى الهيئة العامة للتخطيط العمرانى من جهة ووزارة الزراعة من جهة أخرى للحد من ظاهرة الامتداد العشوائى على الأراضى الزراعية كانت المحافظات بإداراتها المحلية إلى جانب المجالس المحلية تشكل ضاغطا لضم مساحات كبيرة من الأراضى لكردونات وأحوزة التجمعات العمرانية، وربما كان هناك صعوبة أمامها لضم أراضٍ إلى الكردونات بسبب ولاية القوات المسلحة على الأراضى خارج الكردونات ولكن هذا الأمر لم يحدث مع الأراضى الزراعية التى استبيح التعدى عليها.
إلى أى مدى يمكن لتعديلات القانون الداعية لوضع المخططات الاستراتيجية واعتماد تحديد الأحوزة العمرانية بمعرفة المحافظات أن تضمن الحد من الامتداد العمرانى على الأراضى الزراعية فى ظل طلبات مسبقة معلومة للامتداد وفى ظل سياسة إسكان لا تفتح مجالا لإعمار فعلى للمدن الجديدة خاصة بالوجه القبلى وعدم وجود بديل عمرانى مناسب للطبقات غير القادرة فى الريف، خاصة والذى يقبل على البناء العشوائى بالمدن والقرى ناهينا عما يحدث من شبه تلاحم أو كاد للكتل العمرانية بالدلتا.
إن الحفاظ على ما تبقى من أراضٍ زراعية صار مسألة أمن قومى، والتعدى عليها يستوجب المجابهة الجنائية الجادة لتبديد ثروة عامة ممثلة فى تلك الأرض التى لا يعادل انتاج الفدان فيها انتاج عشرة أفدنة مستصلحة خلال سبع إلى عشر سنوات، وكيف يوضع الحد المقنع والثواب لعدم التعدى والعقاب للتعدى فى ظل طلب سوقى ضخم متمثل فى تكوين أسر بمعدل سنوى يبلغ نصف مليون زيجة تمثل الحاجة السنوية للوحدات السكنية، بالإضافة إلى ما لا يقل عن ربع مليون وحدة سنوية حتى ٢٠٥٠ لحل مشاكل الإسكان القائم ما بين القضاء على العشوائيات إلى مواجهة مشاكل الكتلة الرسمية القائمة، بما فيها من مبانٍ انتهى عمرها الافتراضى أو كاد والآيل للسقوط وله قرارات إزالة والصيانة شاملة انقاذ المبانى الخاضعة لقانون الإيجارات القديم.
***
فى اطار التوجه بمنح صلاحيات غير مركزية للمحافظات بوضع واعتماد مخططاتها الاستراتيجية واعتماد الأحوزة العمرانية يقترح ما يلى:
وضع سياسة عمرانية أكثر ملائمة للطلب الإسكانى والاقتصادى على مستوى الفئات الأكثر احتياجا وتمثل قوة عاملة لا يستهان بها، وفى هذا الإطار يقترح إيجاد مستوى عمرانى يقع بين المدينة المتوسطة والصغيرة وبين القرية، يسمى هذا المستوى البلدات وهى «مجمعات زراعى صناعية» تولت إيجادها الصين عند سعيها لوضع اتزان لتدرج أحجام التجمعات العمرانية وخلق فرص عمل محلية كفيلة بإيجاد قواعد اقتصادية محلية قادرة على الاستدامة، فهل لك أن تعرف أن إثيوبيا آخذة الآن فى تطبيق تلك السياسة فى الأراضى المحيطة بالأنهار الجارى بناء سدود عليها سواء ما اشتهر منها لدينا وما هو مدرج بخططهم.
تلك المجمعات الزراعى صناعية يمكن إنشاؤها على سبيل الإيضاح فى الصحراء المتاخمة للوادى غربا، مع تشجيع التعاونيات بجميع مجالاتها للدخول بجانب الشركات فى مد الشبكات والمرافق لها مع قيام الدولة بمد الطرق والتخلى عن دور المستثمر فى الأراضى لمدة كافية بالنهوض بتلك التجمعات.
وأخيرا وضع سياسات كفيلة بتشجيع الخروج من الوادى والدلتا بنشاطات فى مجالات الزراعة والصناعات التحويلية والوسيطة والإسكان خارج الوادى والدلتا.
توحيد جهات الإتاحة والرقابة على الأراضى بين الجهات المختصة لوضع سياسة عامة واضحة المعالم لجميع مستويات التعامل من متخذ القرار إلى المستثمر إلى المستعمل فى المستوى المنفعى المباشر.
استحداث قسم للضبط العمرانى كما هو الحال فى إدارات التنظيم يكون على مستوى مجلس المدينة للعمل على تنسيق العلاقات بين جهات الولاية والاختصاص على الأراضى عند التعامل مع مستخدمى تلك الأراضى والمتقدمين لاستغلالها أو المتعدين عليها، وهو عمل فنى يقع بين حماية أراضى الدولة وحماية الأرض الزراعية وتطبيق اشتراطات الامتداد العمرانى طبقا لمراحل الإعمار التى من المفترض تضمينها داخل المخططات الاستراتيجية.
تفعيل دور الأقاليم الاقتصادية كأقاليم تخطيطية وهى قائمة بالفعل لتقوم بوضع المخططات الاستراتيجية على مستوى الاقليم التخطيطى كمرحلة انتقالية تستتب خلالها السياسة الإسكانية بشكل فعال.