بات العرب يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعيّ لمتابعة الأحداث والأخبار أكثر بكثير من محطّات التلفزة ومن أيّة وسيلة إعلاميّة أخرى. هكذا وصل عدد مستخدمى الفيسبوك فى المنطقة إلى حوالى 190 مليونا. وهذا رقمٌ له دلالته البليغة؛ حيث يشير إلى أنّ أعداد المستخدمين تصل فى أغلب البلدان العربيّة إلى ما بين 35 و90% من مجموع السكّان. وما يعنى أنّ التواصل فى العالم الافتراضى لم يعُد حصرا على الشباب بل تعدّاهم وأضحى وسيلة لكلّ الفئات العمريّة. هذا كلّه قبل الحجر الصحيّ مع انتشار وباء الكوفيدــ19 الذى ربّما زاد اللجوء إلى التواصل المعنيّ.
فيسبوك ليس وحده فى الساحة «الإعلاميّة»، بل هناك أيضا واتساب، الذى يُستخدَم كوسيلة تواصل رئيسيّة رغم منع التحادث الصوتى عبره فى بعض البلدان، ويضاف للقائمة تويتر وأنستغرام وسنابشات وبيتموجى.
تسارع هذا «التطوّر» بشكلٍ كبير فى السنوات الخمس الأخيرة، حسب بيانات مؤسّسة «أصداء» للاستقصاء الإعلاميّ، وتخطّى منحى التطوّرات فى كثيرٍ من بلدان العالم. وبالتوازى، ازدادت بشكلٍ لافت ثقة العرب بالمعلومات الواردة على وسائل التواصل الاجتماعى أكثر من أيّة واسطة إعلاميّة أخرى، بما فيها التلفزة ومواقع الإعلام الالكترونيّة. إنّ 60 بالمائة من الشباب يضعون ثقتهم فيها مقابل 24% فقط من المشكّكين.
***
ربّما يعود جزءٌ من هذه الثقة المتزايدة إلى أنّ محطات التلفزة أضحَت بشكلٍ واضح ومعروف تابعة للحكومات أو لشركاء لها فى السلطة، وموجّهة من قبلهم. هذا رغم أنّها غدت أنشط وأكثر مشهديّة بكثير ممّا كانت عليه فى السابق وأعدادها تنمو أيضا. لكنّ هذا التفسير لا يكفى، إذ لطالما كان هذا الأمر مماثلا مع وسائل الإعلام «القديمة». وكان العرب لا يثقون بأيّةِ منها، بل ينتقلون من وسيلة إلى أخرى، خاصّة تلك المعادية أو التى تناقض قناعاتهم، لتكوين رأيٍ لهم. إلى درجة أنّ أحد أساتذة جامعة هارفارد وصف العرب آنذاك أنّهم أكثر ديموقراطيّة من الغربيين؛ لأنّهم لا يثقون حتّى بوسيلة إعلامهم المفضَّلة بينما ينقسم الأمريكيّون فى ثقتهم بين فوكس نيوز وCNN. يروى أنّ العرب كانوا فى السابق يهتمّون بالصراع مع إسرائيل أكثر من أحوالهم الداخليّة، لكنّهم كانوا يسمعون إذاعاتها ويأخذون العبر منها. أمّا اليوم فندرةٌ من يهتمّون بخبرٍ كما تورده الجهة المحسوبة «كمعادية».
وربّما يعود الأمر أيضا لكون وسائل التواصل الاجتماعى، على عكس وسائل الإعلام الأخرى، تفتح مجالا لتفاعل المتلقّى عبر وضع إشارة إعجاب أو التعليق أو إعادة النشر. وهذا يخلق الشعور بالمشاركة فى صنع الخبر.
اللافت فى هذا الخصوص أنّه بات من الواضح أيضا أنّ وسائل التواصل الاجتماعى تنقل أخبارا كاذبة ويتمّ استخدامها من نفس الحكومات والقوى الخارجيّة كوسيلة للتضليل. هكذا تغلِق فيسبوك وتويتر وإنستغرام مئات الحسابات العربيّة؛ لأنّها «تستخدَم بشكلٍ غير مناسب من قبل مجموعات تدعمها حكومات أو منظّمات إرهابيّة». علما أنّ سياسات هذه المواقع فى الإغلاق أو فى الإشارة إلى الدعم الحكومى انتقائيّة، خاصّةً عندما يتابع المرء كيف استخدمت داعش طويلا وسائل التواصل الاجتماعى نفسها لتجنيد الإرهابيين حول العالم ونشر مشهديّة إجرامها المرعِب لبسط نفوذها.
إنّ وسائل التواصل الاجتماعى أضحَت «سلاحا» فى الصراعات بين الدول، بل ربمّا أكثر فاعليّةً من التلفزة. المثال على ذلك برز فى الصراع بين قطر والدول الخليجيّة الأخرى. كلٌّ يقوم بحملات عبر «هاشتاجات» لزعزعة القاعدة الاجتماعيّة للآخر ونشر الأخبار المضلّلة. والجيش الاسرائيليّ يُتحِف اللبنانيين عبرها، فى ظلّ أزمتهم الخانقة، بتهنئتهم بعيد استقلالهم بعد أنّ اجتاح بلادهم مرارا واحتلّ أجزاء من أراضيها خلال عقود.
***
هنا يبرز تساؤلان جوهريّان: لماذا إذًا هذه الثقة المُفرِطة؟ وهل فقد العرب حسّهم النقديّ تجاه كلّ ما يُشاع؟
بالتأكيد، نحن نعيش اليوم فى عالمٍ جديد. سمته الاجتماعيّة السياسيّة هى وسائل التواصل التى تفتح سبيلا لفضح ممارسات قوى السلطة المتنفّذة ونشرها بشكلٍ واسع، بل فى حشد الجهود من أجل إحداث تغيير. وكان هذا جليّا فى دور وسائل التواصل فى انتفاضات 2011 العربيّة. ولكنّها تشكّل بالمقابل آليّةً لمراقبة آراء الناس وأهوائهم الاجتماعيّة، ووسيلة تستخدمها القوى النافذة بشكلٍ مضاد للتضليل ولفرض هيمنة «ناعمة» لم تكن ممكنة من قبل، سواء إن كانت هذه القوى هى السلطة المحليّة أم سلطات الدول المناهضة لها. هكذا وكما أنّه يُمكن لقنوات التلفزة نقد كلّ شيء سوى السلطة التى تدعمها، تقوم السلطات بحملات تشويش لصرف النظر عن الانتقادات التى تفضح ممارساتها.
هناك كمٌّ كبير من «المعلومات»، فكيف السبيل للتحقّق من صحّتها، دون أن يكون هناك إمكانيّة حقيقة للمعاينة والمحاسبة كما فى حال وسائل الإعلام الأخرى؟ قد تُثير تلك «المعلومات» آثارا نفسيّة وتؤجِّج الصراعات حتّى لو تمّ تكذيبها بعد حين. بل وتحرِف الرأى العام بعيدا عن القضايا الأكثر جوهريّةً. هكذا غاب اليوم فى سجالات التواصل اليوم موقع سؤال اللبنانيين الجوهريّ عمّا سيحدُث عندما يتوقّف مصرف لبنان عن إمكانيّة استيراد مستلزمات المعيشة ومتّى سيحدث ذلك؟ وما معنى السجالات الواسعة بين السوريين حول موقف «الائتلاف المعارض» فى تشكيل لجنة لمراقبة الانتخابات، وكأنّ الطرف الآخر رضيَ أن تكون هناك انتخابات حرّة وتنافسيّة حقيقيّة؟
ليس سهلا بالتأكيد فى هذا العالم الجديد الموازنة بين الفرص الإيجابيّة التى يتيحُها التواصل وبين مخاطره. إلاّ أنّ أحد أسس هذا الحلّ يكمُن فى متابعة حثيثة من قبل وسائل الإعلام الأخرى للأخبار الكاذبة وفضحها، وكذلك فى تمكّن مواطنى كلّ بلد من محاسبة متنفّذيه على سياساتهم.
***
أقلّ ما يقال إن وسائل الإعلام العربيّة الأخرى متقاعسة فى مهمّة قد تكون سبيلا لاستمراريّتها. بل عندما تفعل ذلك تكون لصالح جهة فى مواجهة جهة. وأقلّ ما يقال إنّ مواطنى البلدان العربيّة مأخوذون فى الصراعات الإقليميّة أكثر بكثير من انشغالهم فى محاسبة القائمين على أمورهم فى كيفيّة خدمتهم وازدهارهم.
بالنتيجة، فى زمن انتشار التواصل عبر الانترنت والهواتف «الذكيّة»، تمّ وضع بعض التوجّهات والقواعد التى قد تساعد فى التعامل مع التحديات الكبيرة التى أنتجتها. مثال ذلك هدف التنمية المستدامة 16 للأمم المتحدة، الهدف الذى يكمُن باستخدام وسائل التواصل للوصول إلى «الحكومة المفتوحة». وهذا المفهوم الأخير لا يعنى فقط فتح مؤسّسات الحكومة مواقع لنشر أخبارها وللقيام بالمعاملات، أى «الحكومة الالكترونيّة»، ويذهب أبعد من «المعطيات الحكوميّة المفتوحة»، أى وضع جميع بيانات وميزانيّات وعقود المؤسّسات العامّة بمتناول الجميع. بل يعنى أساسا قبل أيّ شيء مشاركة المواطنين فى صنع السياسات، أفرادا أو هيئات اجتماعيّة، من خلال الشفافيّة والمحاسبة. واللافت أنّ جميع الدول العربيّة انخرطت فى أهداف التنميّة المستدامة، إلاّ أنّها توقّفت عند «الحكومة الالكترونيّة» دون الحوكمة فى أغلب الأحيان.
أحد تداعيات هذا الأمر فى البلدان الأخرى هو دفع الحكومات للضغط على وسائل التواصل لحماية المعطيات الشخصيّة ولدفع الضرائب على الأرباح التى تجنيها من كلّ هذا الهرج.
أين البلدان العربيّة من ذلك كلّه؟!