فجرت أحكام مذبحة بورسعيد المشهد السياسى فى بداية العام الثالث لثورتنا وأظهرت مجموعات شبابية صارت تمارس العنف علنا. كانت مطالب الشباب تدور حول رؤية تغيير حقيقى فى الواقع ينعكس على أحوال الناس الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ولو تدريجيا، بجانب الثأر لدماء الشهداء والمصابين. لكن مع فشل القوى السياسية فى فهم واستيعاب مطالب الشباب فضلا عن فشلها فى تشكيل جبهة وطنية موسعة تقود المرحلة الانتقالية وتضع أسس النظام الديمقراطى وتفك عُرى الاستبداد دون التنافس على أجندات ضيقة، فَقَد الشباب الثقة تدريجيا فى هذه القوى، وبعد أن كنا نتطلع إلى ظهور «كتلة تاريخية» من كافة القوى السياسية لبناء نظام ديمقراطى بديل، ظهرت لدينا «كتلة سوداء» لم نر منها سوى العنف حتى الآن. فما خطورة هذا؟ ومن المسئول؟ وما العمل؟
•••
فى واقع الأمر، معظم الشباب الثائر يفكر بطرق مختلفة تماما عن طرق تفكير النخب التقليدية، فقد استقوا آراءهم من وسائل معلوماتية وفضائية حديثة، وليس لدى الكثيرين منهم ثقة كبيرة فى الأطر القديمة بما فى ذلك الهُوية الوطنية، وبعضهم يجدون ذواتهم فى تحدى كل ما هو قائم دون التفكير فى بدائل محددة.
وهناك تنوع شديد بينهم، فمنهم من شكّل حركات جهادية عنيفة تنادى بما يسمونه دولة إسلامية وسمعنا عن تشكيل جيوش جهادية وكتائب إسلامية، ومنهم من تسيطر عليه أفكار مثالية ويرى أن المشكلة فى السياسيين وبالتالى يرى الحل فى تقدم المشايخ المشهد السياسى. وظهرت أيضا جماعات شبابية عنيفة تطالب بهدم مؤسسات الدولة وتغيير بنية السلطة حتى يمكن البناء على أسس جديدة كما يعتقدون. ومن الطبيعى فى ظل هذه الأوضاع أن تظهر جماعات أخرى هدفها التخريب وإجهاض الثورة.
وقد ساعد هؤلاء جميعا سقوط هيبة الدولة وعجز السلطة (المجلس العسكرى ثم الرئيس المنتخب) عن تقديم أى برامج حقيقية لإعادة هيكلة أجهزة الأمن من جهة، وحالة الاستقطاب بين التيارات السياسية من جهة أخرى.
ولم يواكب الدستور التغيير الذى حدث بالألفية الثالثة، لا فى مصر ولا على مستوى تطور الديمقراطية وظهور أشكال جديدة للمشاركة والتمثيل، ولهذا لم يفتح الدستور أمام الشباب أى سبل جديدة لاستيعاب نشاطهم ضمن المؤسسات القائمة أو بإنشاء مؤسسات جديدة تتيح لهم العمل العام. ولو وضع المصريون دستورا جديدا من عشرين أو ثلاثين سنة لما تغير كثيرا عن دستور 2012.
•••
والأخطر هو فقدان الشباب، كمعظم النخب السياسية أيضا، التركيز على الموضوع الأساسى الذى كان يجب، فى اعتقادى، أن يكون موضع الاهتمام فى أعقاب ثورة ضد الاستبداد، وهو النظام الديمقراطى بمفاهيمه ومؤسساته وضماناته المتعارف عليها. لقد فُقِدَ هذا الموضوع وسط موضوعات أخرى ليست بأهمية بناء النظام البديل الذى (متى تم التوافق عليه وصياغته بشكل صحيح ومتكامل)، فإنه سيساعد على منع تكرار ممارسات النظام السابق ويفتح الطريق أمام ظهور حكومات منتخبة وقادرة على التصدى للمشكلات الاجتماعية والاقتصادية.
كان من الأهمية أن ينشغل الشباب، وكافة القوى السياسية، بأسئلة من نوع: ما ضمانات دولة القانون واستقلال القضاء؟ كيف نحمى الحريات؟ كيف نقيم مؤسسات دولة مهنية وغير مُسيسة ولاسيما فى قطاعات القضاء والجيش والشرطة والجهاز الإدارى؟ كيف نمنع استبداد الأغلبية أو الأقلية؟ كيف نوجد المواطن الديمقراطى ونزرع ثقافة الحوار والنقد البنّاء؟ ما الحوافز التى تدفع الناس إلى احترام القانون والمؤسسات المنتخبة وما العقوبات التى ترفع تكلفة اختراق القانون؟ وغير ذلك.
كان على الشباب والقوى السياسية فهم الفرق بين الديمقراطية كنظام للحكم وبين نتائج وسياسات الحكومات المختلفة التى يمكن أن تستند- بعد البناء- إلى ايديولوجيات مختلفة. كان يجب إدراك أن مرحلة البناء تتطلب مشاركة واسعة ولا يجب أن تعتمد على أوزان القوى السياسية فى أوقات غير مستقرة، وكان عليهم معرفة خطورة تسييس مؤسسات الدولة والزج بها فى صراعاتهم السياسية.
•••
لمعالجة هذا الأمر، يجب أولا ألا نستهين بأعداد هؤلاء الشباب أو بمواقفهم وأفعالهم، ولا النظر لهم على أنهم فصيل واحد. إن تجاهل هؤلاء لن يضمن للنخب التقليدية البقاء لفترة طويلة، فالشباب نجحوا فيما فشلت فيه النخب التقليدية، واستطاعوا إسقاط أعتى المستبدين. وهم، فى اعتقادى، قادرون على قلب الطاولة من جديد فى بضع سنين، وربما شهور، اذا شعروا من جديد بالتهميش، وإذا لم يروا تغييرا حقيقيا فى بنية السلطة السياسية وهياكلها المختلفة. وأنا هنا أتحدث عن السلميين منهم. لقد انكسر حاجز الخوف لديهم ومازالت أدوات التعبئة الإلكترونية والشعبية فى أيديهم، ونجاحهم القريب يقدم لهم قوة دفع قوية لتكرار المحاولة.
وثانيا، لابد من إيجاد آليات للحوار والاستماع بجدية وعمق إلى الشباب والتعرف على رؤاهم ومواقفهم، وخلق مساحات للحوار فيما بينهم أيضا. ويجب هنا طرح القضايا الجوهرية بدلا من الانزلاق إلى قضايا فرعية يمكن معالجتها لاحقا. وأتصور هنا وجود قضيتين محوريتين للحوار: الأولى حول أسس النظام الديمقراطى المنشود، وآليات وسبل تفعيل مشاركة الشباب فيه على كافة المستويات وفى كافة القطاعات السياسية والتنموية والاجتماعية، وحول كيفية إقامة هذا النظام والتوافق حوله والحفاظ عليه.
أما القضية الثانية، فهى أنه فى ضوء امتداد حالة الاستقطاب إلى الشباب أنفسهم، فلابد من التوافق على أسس وأبجديات هُوية وطنية جامعة تجمع المصريين وترتب أولوياتهم وتوحد جهودهم، بجانب زرع منظومة قيمية جديدة ووعى وطنى جديد بأهمية المشاركة فى البناء والنهوض وأهمية التفكير فى المستقبل وتجاوز كافة العقبات.
•••
إن غياب الحل السياسى الشامل القائم على المشاركة وتجنب المصالح الضيقة هو السبب الأول لتفشى العنف بجميع أشكاله، وغياب هذا الحل اليوم سيوصل البلاد إلى حالة من الحراب الأهلى المسلح لن نخرج منها قبل سنوات.
أستاذ مساعد فى العلوم السياسية
بجامعة الإسكندرية