من المفارقات الجديرة بالتأمل أن الدعاية الصاخبة لموضوع «الشمول المالى» فى الأنشطة والخدمات المصرفية، والتى يجتهد الجهاز المصرفى المصرى لإتاحتها لعملائه الحاليين والمستهدفين، تتزامن مع التراجع الراهن فى مؤشرات الاستقرار النقدى، والتى يسأل عنها نفس الجهاز المصرفى.
ومناط المفارقة فى هذا التزامن هو أن قدرة أى جهاز مصرفى على تحقيق الشمول المالى تنشأ من قدرته على محاصرة التقلبات النقدية، ومن قدرته على الحفاظ على القوة الشرائية للعملة الوطنية. فإذا كان الجهاز المصرفى المصرى هو المسئول الأول عن غياب الاستقرار النقدى، وهو أحد المسئولين الرئيسيين عن الغلاء الراهن، فكيف نتوقع إذن نجاحه فى تحقيق طفرة فى الشمول المالى؟
****
عندما نقول إن الاقتصاد المصرى يعانى حاليا غياب الاستقرار النقدى، فنحن نقصد بذلك أنه يعانى مشكلات نقدية ثلاثا:
ــ المشكلة الأولى: تنشأ بسبب الاختلال القائم بين عرض النقود وبين الطلب عليها. فنمو المعروض من النقود فى الأسواق المحلية، دون أن يواكبه نمو مماثل فى السلع والخدمات المتداولة فى هذه الأسواق، يجعل نقودا كثيرة تُطارد سلعا وخدمات قليلة.
ــ المشكلة الثانية: تتمثل فى الاختلال المتنامى بين طلب الحكومة على النقود وبين طلب القطاع الخاص والعائلى عليها. فلأن جُل الزيادة فى المعروض النقدى تذهب إما لتغطية إصدارات أدوات الدين الحكومى الجديدة (أذون وسندات الخزانة العامة)، وإما لسداد فوائد وأقساط الإصدارات السابقة منها، فيعنى ذلك وجود مزاحمة واضحة فى سوق النقود لصالح طلب الحكومة وعلى حساب طلب القطاع الخاص والعائلى.
ــ المشكلة الثالثة: تحدث فى سوق الصرف الأجنبى، نتيجة الاختلال المزمن بين نمو الطلب على العملات الأجنبية، وبين نمو المعروض من هذه العملات محليا. ويظهر أثر هذا الاختلال جليا فى غياب الاستقرار النقدى المحلى، وفى صعوبة التصدى لظاهرة «الدولرة»، كنتيجة مباشرة لتراجع سعر صرف الجنيه فى هذه السوق، ولاحتمالات تراجعه المستقبلية.
وإذا أمعنا النظر فى هذه المشكلات الثلاث، لعلمنا أنها تحدث ــ حصرا ــ فى أروقة الجهاز المصرفى المصرى، بداية من البنك المركزى الذى يقع فى أعلى قمة هرم هذا الجهاز، وانتهاء بقطاعات الائتمان والاستثمار والصرف الأجنبى فى البنوك المختلفة. فالمعروض النقدى يُحدده البنك المركزى من خلال قرارات طباعة النقود الورقية، ومن خلال سيطرته على حجم الائتمان المصرفى الممنوح من البنوك.
على أنه وإن كان البنك المركزى غير مسئول عن نمو الدين الحكومى المحلى، والذى يقابله نمو مماثل فى إصدارات أذون وسندات الخزانة لتمويل هذا الدين، إلا أنه بتركه لوحدات الجهاز المصرفى تتوسع فى شراء هذه الأذون والسندات، بحجة أنها عالية العائد وخالية المخاطر، يُصبح مسئولا عن مزاحمة أذون وسندات الخزانة للاستثمار الخاص الإنتاجى وهما يتنافسان على الائتمان المصرفى.
وبذات المنطق، نستطيع أن نُثبت مسئولية الجهاز المصرفى عن التقلبات النقدية فى سوق الصرف الأجنبى. فعندما يُخفف البنك المركزى من القيود المفروضة على النقد الأجنبى بغرض الاستيراد، وعندما لا يُفرق كثيرا بين نوعية السلع المستوردة، ومدى أهمية كل نوع للتنمية الاقتصادية، وعندما يترك حساب رأس المال مُحررا، يتفاقم الاختلال فى سوق الصرف الأجنبى لصالح العملات الأجنبية، وتصبح احتمالات تراجع قيمة الجنيه فى هذا السوق سيفا مُصْلَتًا على رقاب الاستقرار النقدى فى الأجل المتوسط والمنظور.
وأيا كان الأمر، فإنه من المستقر لدينا أن هذه المشكلات الثلاث السابقة تتفاعل فيما بينها لتتسبب فى التقلبات النقدية التى تنشر ــ بجانب عوامل أخرى ــ موجات الغلاء فى جسد الاقتصاد المصرى.
****
ولكن ما هى علاقة مشكلات الاستقرار النقدى بموضوع الشمول المالى؟ وهل يمكن للشمول المالى أن يحدث دون أن يسبقه استقرار نقدى؟
نتيجة للإلحاح الدعائى لموضوع الشمول المالى أخيرا، يعلم القارئ جيدا المغزى من هذا المصطلح الجديد على مسامعه، فهو يعلم أن إتاحة الخدمات المالية والمصرفية منخفضة التكلفة، والاعتماد على الطرق التكنولوجية السهلة والبسيطة، تهدف أساسا لتوسيع قاعدة المتعاملين فى النظام البنكى، وتسعى جاهدة لتوصيل هذه الخدمات لأولئك الذين يُؤْثرون التعامل خارج هذا النظام، وبما يحقق الشمول المالى فى الأسواق المصرية.
ولئن كانت ضخامة المعاملات المالية التى تتم بعيدا عن النظام المصرفى المصرى هى من الظواهر الاقتصادية التاريخية التى يعلمها القاصى والدانى، فإن الجهاز المصرفى بدا الآن وكأنه فى حالة سباق محموم للقضاء على هذه الظاهرة المرضية، ولتعزيز مقومات الشمول المالى، ومتوسلا بما لديه من وسائل لتحقيق هذا الهدف الحميد.
غير أننا نرى أن الإجراءات الراهنة لتحقيق هذا الهدف لن يكتب لها النجاح إلا إذا سبقها، وتزامن معها، إجراءات على صعيد تعزيز الاستقرار النقدى فى الأسواق المحلية وفى سوق الصرف الأجنبى. فإذا كان الغلاء هو النتيجة الحتمية لغياب الاستقرار النقدى فى هذه الأسواق، فإن تآكل الدخول النقدية للقاعدة العريضة من العملاء المستهدفين بفعل هذا الغلاء، لن تقف عائقا رئيسيا أمام زيادة عمق الشمول المالى المصرى فحسب، بل إننا نعتقد أن هذا الغلاء سيُخرج شطرا لا بأس به من العملاء الحاليين المشمولين ماليا. إذ كيف تنتظر من أحدهم أن يستمر ضمن منظومة الخدمات المالية الحالية، أو تتوقع أن ينجذب آخر للخدمات البنكية الجديدة ــ مهما كانت درجة تميزها ــ والاثنان يكافحان، بشق الأنفس، للمحافظة على مستواهما المعيشى المتدهور بشدة فى غمار هذا الغلاء؟!
وعندما ينجح الجهاز المصرفى فى تحقيق الاستقرار النقدى، وعندما يساهم بدور كفء وفعال فى تهدئة موجات التضخم، يمكنه أن يحقق نتائج طيبة فى تعميق الشمول المالى فى الاقتصاد المصرى. ومع ذلك، نرى أن النتائج المرجوة من جهوده ستظل محدودة بحدودٍ أربعة إضافية:
ــ حدها الأول هو مدى قدرة الجهاز المصرفى على خلق أوعية مالية جديدة فى شكلها البنكى، وملائمة فى مضمونها المالى، لتطلعات جمهور المتعاملين المحتملين مع البنوك. فلو كانت الأوعية الحالية، على تنوعها، ملائمة من حيث الشكل والمضمون لهذه الفئة من العملاء، فلماذا لم تتمكن من جذبهم للدخول فى النظام المصرفى؟!
ــ حدها الثانى هو تكلفة التعاملات المصرفية، سواء كانت تكاليف يدفعها العملاء الحاليون بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. فمن غير المتوقع أن يُقبل عملاء جدد على خدمات مالية تتفوق تكاليفها على العوائد المرجوة منها. وليس أدل على ارتفاع متوسط تكلفة الخدمات المصرفية المصرية، مقارنة بالتجربة الدولية، من تحمل المتعاملين مع أجهزة الصراف الآلى لعمولات سحب غير مبررة، عند استخدامهم أجهزة صرافة غير تابعة لبنوكهم. فإن كان هذا هو حال تكلفة التعامل مع أجهزة الصرافة الآلية، فماذا تتوقع إذن عن باقى تكاليف الخدمات البنكية؟!
ــ حدها الثالث هو الانتشار الجغرافى لوحدات الجهاز المصرفى فى ربوع مصر. وعلى الرغم من الطفرة التى حدثت فى عدد فروع البنوك خلال العقد الماضى، إلا أنها مازالت أقل من التوسع الجغرافى المأمول، ومازالت تُعانى من التحيز لصالح المناطق الحضرية، وما فتئت تمثل انتشارا إداريا أكثر من كونه انتشار مصرفيا متطورا. فبينما تتنوع الأنشطة الاقتصادية والمالية فى الجغرافيا المصرية، فإن أغلب الفروع البنكية تظل نسخا مكررة من بعضها، ولا تُراعى فى أنشطتها وخدماتها المصرفية طبيعة الاختلافات القائمة فى أماكن إقامتها.
ــ أما الحد الرابع والأخير فهو حجم الإنفاق الرأسمالى على تكنولوجيا الشمول المالى، والتى يتعين على الجهاز المصرفى أن يتحمل عبئه، تماما مثلما يتحمل عبء إقامة فروع بنكية جديدة. ونحن لا نقصد هنا بالإنفاق على نشر ماكينات الصرافة الآلية فقط، بل يمتد المعنى الذى نقصده ليشمل التعاون مع هيئة تنظيم الاتصالات لتمويل نظام تكنولوجى يصل عملاء البنوك من خلاله لجميع الخدمات البنكية عبر استخدام الهاتف الذكى، والذى أصبح الآن بين يدى الأغلبية العظمى من العملاء. كما نرى حتمية استثمار البنوك جزءا من فائضها السنوى لتعزيز ربطها بالوحدات الحكومية، حتى يمكن لعملاء هذه البنوك إجراء جميع معاملاتهم المالية الحكومية، تحصيلا وسدادا، باستخدام نفس الهاتف الذكى.
على أننا عندما نصل لهذه الدرجة من الكفاءة المصرفية، فلن نكون بدعًا من الدول. فكل دول العالم المتقدم ــ وعددا متزايد من الدول النامية ــ أمست لديها نظم تكنولوجية مصرفية متطورة وإجبارية على مواطنيها، كفتها عناء الدعوة للشمول المالى.
****
إن دعاة الشمول المالى يتعين عليهم أن يعلموا ــ يقينا ــ أن استفحال الغلاء هو العقبة الأولى فى طريق الوصول لمجتمع مشمول ماليا. وإذا كان الحال كذلك، فإن هدف الاستقرار النقدى يصبح هو المدخل الصحيح لتحقيق الشمول المالى فى مصر، وأنه لا يحق للجهاز المصرفى أن يتسبب فى التقلبات النقدية ثم نجده يقف على أبواب البنوك فى انتظار عملاء جدد!