درس من الأرجنتين! - محمد يوسف - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 4:04 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

درس من الأرجنتين!

نشر فى : الأحد 30 أبريل 2017 - 9:20 م | آخر تحديث : الأحد 30 أبريل 2017 - 9:20 م

كنت، ولا زلت، من أشد الداعين للتعلم من التجارب الاقتصادية لدول أمريكا اللاتينية. فمن ناحية، تتشابه أغلب توجهاتها العامة مع تجربة مصر الاقتصادية، كما أنها غنية بالدروس والعبر الاقتصادية التى يتعين على أى سياسة اقتصادية التعلم منها.
ولأن الأرجنتين، كأحد أهم الاقتصادات اللاتينية، قد حققت إنجازات لا بأس بها منذ مطلع الألفية الثالثة، ولأنها وهى فى طريقها لتحقيق تلك الإنجازات، تعرضت لعثرات متنوعة، وخصوصا فى مديونيته الخارجية، فإن المقال الحالى يحاول تسليط الضوء على بعض الملاحظات الرئيسية فى أزمة مديونيتها الخارجية، لأهميتها فى قراءة وتحليل الوضع الراهن للمديونية المصرية.
*****
كانت المعالم الأساسية لمديونية الأرجنتين عشية دخولها الألفية الثالثة تعكس كل سمات «المديونية الثقيلة». ومن المعلوم أن النوع الثقيل من المديونية يتسم بضخامته كقيمة مطلقة وكنسبة لإجمالى الصادرات، وترتفع فيه حصة المديونية قصيرة الأجل، كما تلتهم مدفوعات خدمته شطرا كبيرا من حصيلة الدولة من النقد الأجنبى. وتشكل هذه السمات فى مجموعها عامل ضغط شديد فى زيادة الحاجة لمزيد من الاستدانة الخارجية، وذلك هو عين ما كانت عليه مديونية الأرجنتين آنذاك.
فوفقا لبيانات البنك الدولى، كانت الفترة من العام 1999ــ2002 أسوأ الفترات التى شهدها الاقتصاد الأرجنتينى فى الثلاثة عقود الماضية. فخلال تلك الفترة (العام 2001) أعلنت الإفلاس، وتوقفت عن خدمة مديونياتها الخارجية، بعد أن وصل رصيدها لـ 152 مليار دولار تقريبا. وكان هذا الرصيد من الضخامة للدرجة أنه يزيد على نصف دخلها القومى الاجمالى، وأربع مرات من اجمالى حصيلة صادراتها من السلع والخدمات، وتلتهم مدفوعات خدمته نصف تلك الحصيلة. وزاد من حدة الأزمة، أن تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر لم تتمكن من معالجة هذا الخلل الصارخ فى توازنها الخارجى، إذ لم تتجاوز صافى تدفقات تلك الاستثمارات على 2.2 % من الناتج المحلى الاجمالى فى ذات السنة.
على أن هذا الوضع الحرج لمديونيتها الخارجية كان الدافع الرئيسى للتفاوض مع الدائنين لجدولة هذا الجبل الشاهق من المديونية، كى تتمكن من الاستمرار فى خدمة تلك الديون، وحتى تتجنب تخفيض جدارتها الائتمانية من وكالات التصنيف الائتمانى الدولية (ستاندرد اند بورز ــ موديز... إلخ)، ذلك السيف المسلط دائما على رقاب الدول التى تتعثر فى خدمة مديونياتها الخارجية.
*****
وبعد أن أثمرت جهودها التفاوضية عن جدولة أغلب مديونياتها الخارجية، لم يعد أمام السياسة الاقتصادية الأرجنتينية خيار إلا تحسين أداء الاقتصاد الحقيقى، إذ إنها وعت جيدا أنه السبب الجوهرى فى نشوء وتفاقم مديونيتها الخارجية، ووعت كذلك أن إجراءات التقشف المطلوبة من صندوق النقد الدولى لن تكون جزءًا من الحل، لأنها جزء أصيل من الأزمة.
بانتهاء العام 2002، تشهد الصادرات الأرجنتينية طفرة كبيرة، ويتحسن «معدل التبادل الدولى»، وتزداد تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر، ويتراجع على إثر ذلك العجز فى ميزان المدفوعات، وينمو الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى بمعدلات متسارعة (اعتبرت من أسرع المعدلات العالمية فى العقد الماضى). كل ذلك ساهم فى التخفيف من وطأة مديونيتها الخارجية فى وضعها الراهن.
صحيح، أن العام 2014 شهد انتكاسة فى تطور تلك المديونية، بعدما امتنعت حكومة الأرجنتين عن خدمة جزء من ديونها غير المجدولة. ولكن تفسير ذلك لا يرجع لتردى مباشر فى أداء الاقتصاد الحقيقى، بل يمثل جانبا من الضغوط التى مارستها بعض صناديق التحوط الدولية Hedge funds التى اشترت ديون الأرجنتين إبَّان أزمتها فى العام 2001، لكى تستفيد، فى وقت لاحق، من ثمار نمو الاقتصاد الحقيقى.
*****
والسؤال الذى ينبغى حسم الإجابة عنه الآن هو: ما هى العوامل الموضوعية التى تفسر النجاح الذى حققته التجربة الأرجنتينية فى مؤشرات الاقتصاد الحقيقى؟

• إن العامل الأول المفسر لإفلات الاقتصاد الارجنتينى من فخ المديونية الخارجية الثقيلة يتمثل فى الاعتماد على سياسات تنموية وطنية، وتفكيك حزمة التكيف المالى التى يوصى بها صندوق النقد الدولى، للاستفادة فقط من مكوناتها التى تدعم التنمية. آية ذلك أن نفقات الحكومة على التعليم ارتفعت خلال فترة الصعود الأرجنتينى، وتضاعف التكوين الرأسمالى الإجمالى، مع تركزه فى قطاع التصنيع. وقد تمخض عن تلك السياسة الوطنية طفرة كبيرة فى الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى، لتنضم بذلك الأرجنتين لنادى العشرين الكبار، الذى يجمع أصحاب أكبر عشرين ناتج محلى عالمى تحت مظلة تجمع G20.

• وكانت الآليات المتطورة لتحفيز الاستثمار الأجنبى المباشر هى العامل الموضوعى الثانى المسئول عن تطوير مؤشرات الاقتصاد الحقيقى. فقد تسببت تلك الآليات فى نمو تدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر من 2.1 مليار دولار فى العام 2002 لتقارب 12 مليار دولار فى العام 2015. ولم يقتصر النجاح فى زيادة القيمة المطلقة لتدفقات الاستثمار الأجنبى المباشر، بل تعدى ذلك لنوعية الاستثمارات المتدفقة، ووجهتها القطاعية، ونقلها للتكنولوجيا المتطورة. كما أن أغلب الاستثمارات التى استقبلتها الأرجنتين خلال فترة صعودها، ساهمت فى رفع الإنتاجية، بعد أن توطنت فى القطاعات الزراعية والصناعية التى تعتمد على مكون محلى مرتفع.

• أما العامل الثالث الذى ساهم فى تحقيق هذا الإنجاز، فكان التوجه التصديرى فى سياستها التصنيعية. فعبر المساندة والدعم الحكومى الكامل للصادرات، وعبر تركز الاستثمارات الأجنبية المباشرة فى قطاعات التصدير، تضاعفت جملة صادراتها من 32 مليار دولار عام 2002 لتصبح 73 مليار دولار عام 2015. وعلى الرغم من مساهمة السياسة المرنة للصرف الأجنبى لعملة الأرجنتين فى هذا النجاح التصديرى، فإن تحسن الإنتاجية الصناعية، وتطور مؤشرات جودة الصادرات، وانتشارها الجغرافى، كانت هى المسئولة عن هذه الطفرة التصديرية.
****
إن الدرس المهم الذى يمكن استخلاصه من تجربة مديونية الارجنتين، هو أن جوهر أزمة المديونية الخارجية لأى دولة يمثل انعكاسا كاملا لأزمة الاقتصاد الحقيقى فيها، كما أن قدرة أى اقتصاد على استيعاب الديون الخارجية مرهون بتطور مؤشرات أدائه الحقيقية.

محمد يوسف باحث رئيسي في مركز تريندز للبحوث والاستشارات بدولة الإمارات
التعليقات