أسئلة عديدة كانت تنتظر خطاب باراك أوباما الذى ألقاه الأسبوع الماضى فى جامعة الدفاع الوطنى فى واشنطن. أجاب الرئيس عن بعض الأسئلة المثيرة للجدل، وتجنب الأسئلة التى يهتم بها عادة الرأى العام المتخصص، وبخاصة أساتذة وخبراء شئون الدفاع والاستراتيجية. من المسائل التى تجنب الخوض فيها التقدم الملحوظ فى الصناعات العسكرية الصينية وتوسع حكومة بكين فى أنشطتها البحرية وبناء قواعد وتسهيلات على سواحل جنوب آسيا. تجنب أيضا التعرض لموضوع اختيار الصين لمسارات أنابيب نقل الغاز والنفط، فيما صار يعرف بطريق الحرير الجديد مقلدا الطريق التاريخى فى مساراته المتعددة عبر الهند وبلاد العرب وعبر وسط آسيا وتركيا وعبر أفغانستان وإيران. يكمن وراء الاهتمام الأكاديمى بهذه الأسئلة وغيرها الاتجاه نحو الخفض المتدرج لميزانية الدفاع الأمريكى على مدى السنوات العشر القادمة والحديث المتكرر عن القرن الصينى.
تجنب الرئيس أوباما الحديث فى هذه القضايا واختار موضوعات مثارة فى اجهزة الإعلام ودوائر المجتمع المدنى وأغلبها يسبب لأوباما وإدارته الحرج فى الولايات المتحدة كما فى خارجها.
جاءت اجاباته فى معظم الأحوال غير مرضية تماما للسامعين والمعلقين وإن حقق أغلبها تقدما فى الموقف الرسمى عن المواقف السابقة. قال مثلا عن سجن جوانتانامو إنه ما كان يجب أن يستخدم أصلا. لم يقل صراحة إن جوانتانامو بأسرها ما كان يجب أن تكون أرضا أمريكية وإن الوقت قد حان لإعادتها إلى وطنها كوبا، ولكنه قصد أن الرئيس بوش ما كان يجب أن يستخدم القاعدة سجنا للمشتبه فيهم من العناصر الإرهابية. لم يكن خافيا أن أوباما يتهم الرئيس بوش بأنه اخطأ لأنه استخدم هذه القاعدة لأغراض التعذيب والاعتقال بدون محاكمة هربا من الرقابة التى تفرضها القواعد الدستورية والقانونية الأمريكية على إجراءات من هذا النوع.
كان إغلاق المعتقل وعدا انتخابيا التزم به الرئيس أوباما فى حملته الانتخابية ولكنه لم يفعل بسبب ضغوط الجمهوريين فى الكونجرس من ناحية وبسبب رفض حكومات عديدة تسلم المشتبه فيهم من مواطنيها. وأظن أن الرئيس ما كان يقدم فى هذا الخطاب على تجديد وعده بالإغلاق لو لم يكن قد حصل من حكومة اليمن بالذات على وعد بتسلم مواطنيها المعتقلين فى جوانتانامو. يعرف أوباما وأعضاء حكومته وتيار كبير من الليبراليين الأمريكيين أن وصمة جوانتانامو ستظل عالقة بالسمعة الأمريكية وتزداد سوءا اذا لم تفرج الحكومة الأمريكية فورا عن المعتقلين أو تجرى لهم محاكمات عادلة أمام محاكم عادية إن كانت حقا تحوز أدلة كافية لإدانتهم.
تعرض أوباما لموضوع الإرهاب والحرب ضده وقال فيه الكثير وبعضه مكرر سبق له أن قاله فى مناسبات عدة. أكد اقتناعه بأنه لا توجد ويجب ألا توجد حرب دائمة ضد الإرهاب أو ضد أى عدو آخر، فلكل حرب نهاية. ولكنه تعمد، فى إشارة موجهة إلى طالبان وتنظيمات القاعدة وقطاعات فى الرأى العام الأمريكى، القول بأن أمريكا لن تهدأ حتى تدمر المنظمات الإرهابية.
●●●
كان صريحا فى اعترافه أن هذه الحرب ضد الإرهاب منحت رئيس جمهورية الولايات المتحدة تفويضا منذ 2011 يسمح له باعتقال من يشاء بدون أجل ويسمح له باغتيال من يشتبه فى ميوله وأنشطته الإرهابية. يرى أنه يجب أن ينتهى هذا التفويض وإلا تعرضت المؤسسات الديمقراطية للخطر. أتصور أن أوباما كان يقصد تحديدا أن سلطة الكونجرس فى التدخل تضخمت إلى حدود تكاد تشل عمل الدولة. أراد أيضا أن يبلغ الديمقراطيين أن الجمهوريين يستفيدون سياسيا باعتبار أن الإجراءات الاستثنائية الممنوحة للرئيس تضعف من شعبيته وشعبية الحزب الحاكم. أتصور كذلك أن مجموعات معتبرة فى مسالك صنع القرار الأمريكى صارت مقتنعة بأن هذه الإجراءات الاستثنائية والاعتقال بدون محاكمة والاغتيال بالاشتباه واستمرار العمل فى جوانتانامو تسىء إلى صدقية الولايات المتحدة فى المجتمع الدولى وبخاصة عند طرح موضوعات دعم الديمقراطية والعدالة وإعلاء مكانة القانون والدستور.
●●●
وفى إشارته إلى قضية استخدام الطائرات دون طيار المعروفة باسم درون افتقر أوباما إلى الحجة المقنعة. كان واضحا أن جماعة ضغط كبيرة تدعم الاستخدام المتزايد لهذا السلاح المتطور. الرئيس أوباما متهم بأنه استخدمها فى شن 300 غارة خلال أربع سنوات فى ولايته الأولى بينما استخدمها بوش خمسين مرة فقط خلال ثمانى سنوات. ليس سرا أن اجتماعا يعقد فى البيت الابيض يطلق عليه «ثلاثاء الرعب» يحضره الرئيس أوباما ليشرف بنفسه على عملية اختيار الاشخاص المقترح تثبيتهم كأهداف للقتل خلال الأسبوع اللاحق.
يقول المعترضون على غارات الدرون إن هذه الغارات لن تقضى على الحركة الجهادية فى مناطق الحدود الأفغانية الباكستانية أو فى جبال اليمن. يكفى انها تسىء إلى سمعة أمريكا فى أوساط الشعب الباكستانى الثائر ثورة عارمة على أمريكا وأن هذه الغارات كما قال احدهم صارت تمثل وجه أمريكا فى اليمن. ويرد أوباما بأن غارات الدرون لا تتسبب فى اضرار جانبية واسعة كتلك التى تتسبب فيها غارات وحملات القوات الخاصة. قال أيضا إنها السلاح الأكفأ فى حرب الكهوف والجبال. ومع ذلك فقد وعد أوباما بوضع إرشادات، ولم يقل إجراءات، لم يعلن عنها. المتوقع أن تتضمن التأكيد على أن الهدف الصادر بشأنه قرار بالقتل يمثل خطرا عاجلا يهدد الشعب الأمريكى، وعلى عدم استخدام هذا السلاح إلا فى حال فشلت الوسائل الأخرى، وأن تبقى الأفضلية اعتقال الهدف والتحقيق معه وإقامة الدعوة القضائية ضده وليس قتله. تتضمن أيضا التأكد أن مدنيين لن يصابوا خلال عملية اغتيال الهدف.
●●●
لا يحتاج الفرد منا إلى تأكيد من أوباما أو غيره بأن استخدام سلاح الطائرات بدون طيار جعل عملية القتل أسهل وابسط. هذه البساطة نفسها هى التى تجعلنا نجزم بزيادة قابلية الدول لشن حروب على دول أخرى. من ناحية ثانية يسود اعتقاد بأنه بينما تثير الحروب التقليدية مسائل أخلاقية عديدة تؤثر فى قابلية الشعوب للحرب يبدو أن حروب المستقبل المعتمدة على عقول آلية ستكون فاقدة هذا التأثير الأخلاقى.
●●●
ما زال أوباما يراوده حلم أن يكون الرئيس الذى أخرج أمريكا من دائرة الحروب الجهنمية التى انغمست فيها على امتداد حياتها. يكفى أنه حاول.