فى عام 2002 وقعت الصين مع بقية الدول الأعضاء فى رابطة جنوب شرق آسيا على إعلان بالتزام الحيطة وضبط النفس فى التعامل مع كل قضايا المنطقة ومشكلاتها. وفى عام 2010، وبالتحديد منذ شهرين، اجتمعت الدول الأعضاء فى الرابطة، وحضرت الاجتماع السيدة هيلارى وزيرة خارجية الولايات المتحدة الاجتماع، لتعلن أن بلادها تنظر إلى نزاعات الدول فى بحر الصين الجنوبى فى إطار المصلحة القومية الأمريكية، وانضم إليها فى الإعراب عن قلقها إزاء تطورات الوضع فى المنطقة قادة عشر دول مجاورة للصين شعروا أن القوة المتصاعدة للصين على أرض الواقع جعلت الإعلان الصادر قبل ثمانى سنوات خالى المضمون وغير ذى معنى.
لم يعد سرا أن الصين تعمل منذ سنوات على بناء قاعدة بحرية للغواصات فى جزيرة هاينان وهو ما اعتبره محللون عسكريون تحولا استراتيجيا جذريا فى العقيدة العسكرية للصين. أول معنى من معانى هذا التحول ـــــ كما فسرته الولايات المتحدة ــــ هو أن الحالة الملاحية فى بحر الصين الجنوبى سوف تتعرض لقيود وقد تصبح مساحة المياه التى يمكن لأساطيل الدول الأخرى أن تتحرك فيها بحرية صغيرة للغاية، إذ سيتعين إن آجلا أم عاجلا على كل بواخر الشحن والبوارج وحاملات الطائرات والغواصات التى ترفع أعلام الدول الأخرى اطلاع القيادة البحرية الصينية مسبقا على تحركاتها.
لا حاجة بنا إلى المراهنة على صدق هذه التوقعات من عدمه فالأمر الواضح والمؤكد هو أن الصين قد واجهت العالم بأمر واقع جديد فى الاستراتيجية الدولية حين أعلنت على الملأ أن بحر الصين الجنوبى بؤرة اهتمام صينية ليست أقل خطورة على أمن الصين استقرارها من البؤرتين التقليديتين، وأعنى بهما تايوان والتبت، بالإضافة إلى بؤرة استجدت مؤخرا فى إطار صحوة جماعات إسلامية فى وسط آسيا، ألا وهى إقليم سينكيانج الذى تسكنه أغلبية من شعب الإيغور المسلم.
لم تخف الصين انزعاجها من موقف الوزيرة هيلارى وتصريحاتها بخاصة تلك التى دعت من خلالها إلى «مقاربة» متعددة الأطراف لحل مشكلات الحدود البحرية فى إطار منتدى أمن آسيوى يضم إلى جانب الصين فيتنام والفلبين وبروناى وتايوان وإندونيسيا، أى الدول صاحبة حقوق فى هذا البحر الذى يمتد من جزيرة هاينان شمالا إلى جزيرة بورنيو جنوبا.
يعكس الاهتمام المتزايد من جانب الصين ببحر الصين الجنوبى وكذلك ببحرها الشرقى وبحر اليابان ومضايق تايوان انشغالا طبيعيا ومنطقيا بأمنها المباشر، خاصة أن المناطق المتاخمة لهذه البحار أصبحت خلال الثلاثين عاما الماضية أهم قواعد النمو الصناعية والتجارية فى الصين إن لم يكن فى كل آسيا.. يعكس أيضا توجها استراتيجيا أوسع نحو العالمية، خاصة أن الشواهد تدل على أن الصين تبنى فى الوقت الراهن قوة بحرية لعلها احتلت بالفعل الآن المرتبة الثانية بعد الولايات المتحدة، وتسعى بحزم لتقليص الفجوة الفاصلة بين المرتبتين.
يذكرنا متخصصون فى الشئون الصينية بأرقام لا يمكن إغفالها عند متابعة ثم مناقشة توجهات الصين العسكرية فى السنوات الأخيرة. لم يعد خافيا أن الصين تستعد، ومنذ فترة ليكون فى حوزتها 78 غواصة فى عام 2020، بمعنى آخر يكون لديها عدد من الغواصات يعادل ما سيكون لدى الولايات المتحدة الأمريكية. يتوقعون أيضا أن يكون لدى الصين ما يزيد على سبعمائة قطعة بحرية مسلحة مزودة بالصواريخ وأحدث أجهزة الاتصالات والتوجيه، وهى الآن تقيم مرافئ فى بلاد عديدة أهمها باكستان وبنجلاديش وسيريلانكا تقول عنها بكين إنها محطات تموين لأسطولها التجارى ومخازن لبضائعها المتوجهة إلى الشرق الأوسط وما وراءه. بمعنى آخر ترفض الصين اتهام دول الغرب لها بأنها تقيم قواعد عسكرية فى تلك الدول..
ويميل الخبراء العسكريون من أمريكيين وبريطانيين إلى تصديق بيانات الصين عن الموانئ التى تشيدها فى الخارج وأنها ليست قواعد عسكرية، ولكنهم لا يستبعدون أن تضطر الصين قريبا جدا إلى التفاوض مع دول بعينها للحصول على قواعد أو تسهيلات بحرية تحتمى فيها أساطيلها التجارية والحربية أو لتنطلق منها لمطاردة القراصنة الذين ينشطون فى المياه القريبة من شرق أفريقيا ومداخل البحر الأحمر والمضايق التى تحكم طرق الملاحة فى بحر الصين الجنوبى..
ما أشبه اليوم بالبارحة، على الأقل فى المقارنة التالية. إذ تمر الصين الآن فيما مرت فيه بريطانيا العظمى قبل قرون حين احتاجت إلى أسطول حربى يحمى مراكبها وتجارتها العالمية. وهنا ينتهى التشابه. ففى أزمنة هيمنة التجارة البريطانية لم يكن هناك فى البحار والمحيطات والمضايق قواعد عسكرية بحرية وبوارج ومدمرات لدولة أقوى وأعظم تتولى حماية سفن بريطانيا وغيرها من ناقلات التجارة الدولية. بينما فى الأزمنة الراهنة تصعد الصين كقوة تجارية لها وزنها وتمخر سفنها كل البحار مطمئنة إلى أن دولة عظمى هى الولايات المتحدة تتولى حماية هذه السفن الصينية ضمن مهمتها الموكلة لها ضمنا أو انتزاعا من المجتمع الدولى لحماية طرق التجارة العالمية.
ولكن يصعب علينا أن نتصور أن الصين ستواصل نموها الاقتصادى والتجارى معتمدة على حماية الولايات المتحدة الأمريكية لتجارتها فى ممرات الملاحة الاستراتيجية فى العالم. سيأتى يوم لن تكون فيه الصين وشركاتها التجارية العملاقة ومصالحها الاقتصادية مطمئنة إلى الحماية الأمريكية. هنا تظهر أهمية وخطورة ما حدث فى اجتماع رابطة الآسيان منذ أيام عندما تأكدت مخاوف الصين بإعلان الولايات المتحدة أن بحر الصين الجنوبى يندرج تحت مظلة التزامها أن تبقى الممرات المائية ومنها بحار الصين مفتوحة لجميع الدول وللتجارة العالمية. كان يعنيها بشكل خاص بحر الصين الجنوبى حيث تمر أكثر من ثلث التجارة البحرية العالمية، وحيث يمر نصف مجمل واردات شمال شرق الصين والكوريتين واليابان وتايوان من النفط والغاز. وللسبب نفسه لم تقبل الصين أن تتولى الولايات المتحدة حماية هذا البحر والتجارة فيه، ولتأكيد رفضها الوجود الأمريكى قامت بإجراء مناورات بحرية تثبت بها سيادتها على البحر والجزر المتنازع عليها بخاصة مجموعة الجزر المعروفة باسم سبارتلى وباراسيل. يعرف العسكريون الصينيون كما يعرف أقرانهم فى جنوب آسيا والغرب أن حماية تجارة الصين وأساطيلها وقواعدها فى الخارج تتوقف على نجاحها فى تأكيد هيمنتها على مياه هذا البحر، فهو البحر الذى ستنطلق منه غواصاتها وسفنها العسكرية وبواخرها التجارية المتجهة إلى المحيط الهندى والخليج والبحر الأحمر.
يطلق الكاتب سيمفيندورفر «Sempfendorfer» تعبير طريق الحرير الجديد على خطوط الملاحة الصينية الممتدة من بحر الصين الجنوبى إلى أقصى نقطة عند الأمريكتين مرورا بالشرق الأوسط. يختلف هذا الطريق عن طريق الحرير القديم فى أن القديم اعتمد على البر من مواقع فى غرب الصين مرورا بوسط آسيا حتى غربها وجنوب أوروبا بينما يعتمد الطريق الجديد على البحر من موانئ على سواحل بحر الصين الجنوبى مرورا ببحار الهند والعرب وصولا إلى مياه الأطلسى.. هذا الطريق وما ينقله من بضائع هو الذى يفرض الآن على الصين بناء أكبر قوة بحرية بعد القوة الأمريكية سعيا وراء أن تصير قريبا أقوى قوة بحرية فى التاريخ، وهو التعبير الذى استخدمه روبرت كابلان «Robert Kaplan» فى مقال نشرته له مجلة فورين أفيرز الأمريكية وفى حوارات أجراها فى مواقع متعددة.
لكنه يقول، وأختلف معه: إن إصرار الصين على بناء قوة بحرية فى ظل وجود قوة أمريكية عظمى تحمى طرق التجارة الدولية لا يخرج عن كونه رفاهة تزين بها صعودها السريع فى سلم المكانة الدولية، بينما كان بناء بريطانيا قوة بحرية فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر ضرورة ــ لا غنى عنها لحماية تجارتها العالمية.
أختلف مع كابلان وأمثاله من المفكرين الذين ما زالوا مقتنعين بأن ما كان جائزا لشعوب الغرب على مدى قرون لا يجوز بالضرورة لشعوب الشرق وبخاصة فيما يتعلق بالقوة وعناصرها. الشعوب تتغير. الصينيون الذين عاشوا قرونا يبنون القلاع والأسوار ومنها سور الصين العظيم ليحموا حدودهم البرية من غزو البرابرة، أى الأجانب، هم أنفسهم الذين قرروا فى الثلاثين عاما الأخيرة أن تصبح بلادهم أقوى قوة بحرية عرفها التاريخ.