أضلاع العملية السياسية فى مصر ستة، وداخلها وبينها الكثير من التفاعلات التى تحتاج الكثير من النقاشات الموسعة. ولكن لنعتبر التعرف على الأضلاع الستة وتطورها نقطة البداية لفهم أوسع لما نحن فيه ومن ثم لما نحن مقدمون عليه.
الضلع الأول هم الشباب الثائر الذين دخلوا الميادين على غير اتفاق وخرجوا منها على غير اتفاق؛ فلا كانت لهم قيادة ولا كان له تنظيم يعبر عنهم. ولكن عند خروجهم تركوا لنا ثلاثة مكونات:
المكون الأول هو شعار «الجيش والشعب إيد واحدة» والذى ترجم رغبتهم فى ألا يصطدموا بالجيش وثقتهم فى أنه وقف إلى جوارهم بدءا من يوم 3 فبراير لأن بياناته والكثير من تصرفاته كانت تؤكد أنه اختار أن يكون بجوار الثورة وليس بجوار مبارك وحاشيته. ولكن كانت هناك ثغرة، وهو أنهم لم يتفقوا معه على كيفية إدارة شئون الدولة فى مرحلة ما بعد إخلاء الميادين وبأى سقف وبأى سرعة، ولهذا عادوا للميادين مع كل جمعة وجدوا فيها تناقضا بين توقعاتهم وأدائه.
والمكون الثانى هو عدة أشخاص رشحهم قطاع من الثوار على أمل أن يكونوا رجال الحكومة القادرة على ترجمة مطالبهم إلى إجراءات، وشعاراتهم إلى قرارات. اختاروا مثلا ثلاثة أسماء كى يكون أحدهم رئيسا للوزراء، وكذا للمناصب العليا فى الوزارة بمن فيهم وزير الداخلية، الذين ظنوا فيهم أنهم من النزاهة والوطنية ما يجعلهم الأفضل لهذه المهمة «الثورية». وكانت دهشتى، وكنت آنذاك لم أزل خارج مصر، أننى لم أجد بين الأسماء المرشحة للمناصب السيادية العليا قيادات المعارضة سواء الحزبية أو الشعبية من قيادات كفاية والجمعية الوطنية للتغيير والحركات الاحتجاجية التى دفعت الثمن غاليا فى مرحلة ما قبل الثورة بكل شجاعة ووطنية تحسب لها. ورغما عن اندهاشى هذا، لكن أنا لم أكن فى الميدان كى أعرف التفاصيل وتصورت أن حكمة ما قادت الثائرين لهذا الاختيار حتى تبين لى أن هذه الحكمة ليست أكثر من استجابة مباشرة لانطباعات سادت لحظيا تحولت إلى ندم عند الكثير منهم لاحقا.
والمكون الثالث هو ذكريات جميلة عن تلاحم إنسانى بديع يتسم بثلاثية إنكار الذات، وحب الوطن، وكراهية الاستبداد. ولكن هى ذكريات طيبة لم يحتضنها كيان مؤسس يضمن وحدة الجميع أو التنسيق بينهم. وهذا ليس غريبا عن معظم الثورات الكبرى (تذكروا الانقسام الذى دب بين رفقاء ثورة 1919 وأشهرها سعد فى مواجهة يكن، ثم انقسام نجيب وناصر فى ثورة 1952، ولينين وتروتسكى فى الثورة البلشفية، وروسبيير ودانتون وسان جوست فى الثورة الفرنسية، والخومينى وبنى صدر فى الثورة الإيرانية).
الضلع الثانى كان المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى وجد نفسه مطالبا بإدارة شئون الدولة والقيام بمهام تأمين المنشآت الحيوية بعد غياب معيب لقوات الشرطة فى مساء 28 يناير ثم «حوسة» إدارة دولة «لابسة مزيكا» أى شكلها شكل دولة، ولكنها كانت تدار بمنطق العصابة. وكان عليه أن يقوم بثلاث مهام متداخلة: أولا الحفاظ على تماسك القوات المسلحة كمؤسسة تقوم على احترام الأوامر والالتزام بها فى لحظة ثورية هى بطبيعتها تقوم على رفض الأوامر والخروج عليها. وثانيا، حماية حدود الدولة فى ظل منطقة تشهد كل يوم أخبارا جديدة غير سارة من الشرق ومن الغرب ومن الجنوب؛ لاسيما أن نجاحنا قد يغرى بعض الشعوب المحيطة بنا بأن تحذو حذونا وبالتالى يصبح فشل ثورتنا أو تعثرها هدفا لبعض القوى الإقليمية.
وثالثا، إدارة المرحلة الانتقالية بدون خطة مسبقة وبرؤية تقوم على التغيير فى حدوده الدنيا لأنها تدربت على مهام القتال والحرب، ولم تتدرب على مهام المساومة والبحث عن الحلول الوسط مع السياسيين، لاسيما أن قياداتها هم أنفسهم كانوا جزءا من «ماكينة إنتاج الاستقرار» التى كانت سائدة فى مرحلة ما قبل الثورة. ولغياب التوافق بين المجلس العسكرى وبين الثائرين، عادت العلاقة وكأنها معركة بين من يريد إعادة إنتاج النظام القديم (المجلس العسكرى) ومن يريد وأد هذه العملية (الثائرين).
الضلع الثالث، وزراء دخلوا إلى السلطة وهم غير مستعدين للمفاجآت غير السارة التى وجدوها والتى وصفها أحدهم بأنها «دى خرابة، والله لو أعرفها كده لما عمرى كنت قبلتها». حكومة دخلت بلا أجندة واضحة إلا الأمنيات الطيبة وبلا تصور واضح لعلاقتها بالمجلس العسكرى إلا تنفيذ الأوامر ولا بالقوى الوطنية الأخرى بما فيها شباب الثورة الذين فتحت لبعضهم «مكاتب اتصال» ليهاجمها الآخرون بمنطق «اشمعنى دول واحنا لأ»، وبرفض واضح من قبل الكثيرين من الكفاءات الذين رفضوا التعاون معها أو الاشتراك فيها لأسباب بعضها شخصى، وبعضها حزبى، وبعضها وطنى، وبوعود كثيرة غير قادرة على تلبيتها بسبب ضيق اليد (وكانت تريد الاقتراض من الخارج، ووُعِدت بمساعدات ومنح لم تصل) وكذلك بسبب غياب القيادة والإرادة والرؤية أو لكل هذه الأسباب مجتمعة. ولم يعد أمامها الآن إلا أن تتحمل هذا الكم المهول من الانتقادات وصولا إلى انتخابات هى المخرج الوحيد الممكن لها بشرط أن تكون حرة ونزيهة على الأقل بمعايير انتخابات 2005. حكومة على غير وفاق مع الشارع الذى انفجر فى توقعاته أو الثائرين الراغبين فى أن تكون حكومتهم التى اختاروها ترجمة لإرادتهم فى استكمال الثورة ومجلس عسكرى يرى أن اتجاه الثورة وسرعتها كما يريد الثائرون فوق طاقته وطاقة المجتمع الذى عاش لسنوات طوال على الفساد وتوحد معه. وعليه فإن الطهر الثورى الذى ينطق به الثائرون لن يطهر فقط ميكروبات النظام السابق، وإنما سيهدم المعبد على الجميع من وجهة نظر الحكومة والمجلس العسكرى.
الضلع الرابع، هم شبكة من الأشخاص الذين أُطلق عليهم فى مرحلة سابقة «الثورة المضادة» وفى مرحلة لاحقة «الفلول» الذين يرفضون أن يستسلموا لفكرة أن انتماءهم للحزب الوطنى يعنى أنهم أعداء للوطن، ويريدون أن يشاركوا فى تحديد مصيره لأنهم إن لم يفعلوا فسيفقدون قدرتهم على الدفاع عن مصالحهم (المادية والمعنوية). وهؤلاء وجدوا ضالتهم، جزئيا فى القلعة المنيعة التى أنتجها المجلس العسكرى كمنطقة عازلة بين الثوار وبين «الفلول» بأن منع إصدار قانون الغدر وغيره من إجراءات.
الضلع الخامس، هم أعداد غفيرة من أهلنا الطيبين الذين لم يشاركوا فى الثورة فى بدايتها لأن بديل الثورة لم يكن جزءا من خيالهم السياسى، وإنما كل ما كانوا يتمنونه هو وقفات احتجاجية لزيادة الرواتب أو التثبيت. ولكن ارتفع سقف توقعاتهم بسبب وعود غير منضبطة من الحكومة وإخفاق واضح فى إدارة توقعات الناس مع رسالة واضحة من المجلسين (العسكرى والوزارى) بأن «الاعتصام مفتاح الفرج». وتباعا ترعرت ثقافة أن الحرية تعنى الخروج على القانون باعتبار أن القانون نفسه من بقايا النظام السابق لأنه كان قانونا ناتجا عن نظام فاسد، إذن فهو فاسد.
الضلع السادس، القوى السياسية التى كانت مكبوتة لعقود تحت وهم الجيوش الجرارة التى كان يملكها النظام (بما فى ذلك أكذوبة أن جهاز الشرطة يتكون من مليون ونصف المليون جندى فى حين أن كل جهاز الشرطة لا يزيد عدد أعضائه على 300 ألف جندى بمن فيهم المجندون والذين يكون ثلثهم فى إجازة كل شهر كجزء من ترتيبات ما بعد أحداث الأمن المركزى فى عام 1981). لكنها كانت إدارة بالهيبة الخادعة، أما وقد اختفت الهيبة فقد خرج الجميع ليعلن بوضوح أنه طرف وأنه صاحب صوت عال وقوى ومؤثر ويريد أن يشارك فى صناعة المستقبل وفقا للقواعد التى تعمل لمصلحته. وهذا مفهوم فى عالم السياسة لأنها صراع إرادات وتنافس قيادات وتصعيد شعارات.
<<<
كل هذه الأضلاع ليست ساكنة، وكل ضلع يتحرك منتجا سلسلة من ردود الأفعال غير المنضبطة فى كل اتجاه، مع سيادة لمناخ التشكك الذى يبدو معه كل طرف متربصا بالآخر. وهذا هو ما يجعلها سداسية مرعبة لأن أطرافها لا يظنون خيرا ببعضهم البعض، بل يتبارون فى الاستخفاف أو التوجس من توجهات كل طرف واختياراته، وكأنهم لا يجيدون أهم الفنون السياسية وهو البحث عن المشترك، واعتماد جزء ولو يسيرا من الثقة المتبادلة. ومع ذلك يظل البديل الوحيد المتاح أمامنا هو سرعة إنشاء مؤسسات تهذب الأضلاع وتجمعها من خلال أطر للتفاوض الجماعى والمساومة السياسية التى تؤدى إلى حلول وسط على أساس من التوافق الوطنى؛ بعبارة أخرى وأخيرة: الانتخابات هى الحل.