يحتمل عنوان هذا المقال قراءتين: بكسر العين فيه وبضمها. والواقع أننى أقصد القراءتين والمعنيين معا. لأن تعيين باحث فى علم النفس هو شاكر عبدالحميد أمينا عاما للمجلس الأعلى للثقافة ينبئنا بأن الثقافة تعانى من مجموعة من العصابات (بضم العين) المرضيّة، والعصاب بضم العين من الأمراض النفسية المراوغة والمستعصية أحيانا، والتى احتاجت إلى تعيين متخصص فى علم النفس كى يجد لها العلاج الناجع والمطلوب. كما أن ما يدور فى مجال الثقافة المصرية، وبعد سنوات طويلة من استئناس المثقفين وإدخالهم الحظيرة، لا تنفصل فيه العصابات المرضية (بضم العين) عن العصابات (بكسرها) التى أدارت الثقافة والوزارة وسيطرت على أنشطتها، ودفعتها إلى حضيض التردى والهوان لعقود أربعة. لأن الأفراد أو المثقفين القيمين على شئون الثقافة هم الذين يجلبون للوزارة الأمراض النفسية والعضوية المختلفة. خاصة بعدما أجمع كل من التقيت بهم من المثقفين، على كثرتهم، طوال الأسابيع الأخيرة التى زرت فيها القاهرة على أن وزارة الثقافة بعد الثورة، والتى يقود دفتها عمادالدين أبوغازى، لم تختلف كثيرا عن تلك التى قاد دفتها «الوزير الفنان» فاروق حسنى فى عهد مبارك البغيض، أى عهد التردى والتبعية والهوان.
وكأن مصر لم تشهد ثورة حضارية رائعة، انبهر بها العالم كله. أو كأن شرعية الاستبداد والتخلف والهوان (وتدجين المثقفين بالحظيرة) لا تزال هى السائدة فى مصر، وليست شرعية الثورة. بل تطوع البعض بالتعليق بأن حال الوزارة إبان زمن فاروق حسنى الردىء وعصر الانحطاط البغيض المسمى بعصر مبارك، كان أفضل من حالها الآن. فها هو شارع المعز الذى كان أحد أبرز إنجازات «الوزير الفنان» يتحول إلى مقلب للزبالة، وقد هجم عليه الباعة الجائلون تمهيدا للرجوع به إلى ما كان عليه قبل الترميم. أما بقية أمور الوزارة التى كان من المأمول لها أن تصبح منارة التغيير بعد الثورة، وطليعة قوة مصر الناعمة لتحقيقه، فحدِّث عنها ولا حرج.
حيث يمكن أن نشخص أحوالها بأنها تعانى جميعها من عصاب النكوص والانتكاس، ورهاب الخوف من التغيير الذى يحتاج إلى تشخيص الأمين العام الجديد وتخصصه. معرض الكتاب الدولى مؤجل بسبب الثورة، ثم معرض بديل فى «فيصل» متعثر وهزيل تبيع فيه الهيئة كتبها الكاسدة، وآخر لا يقل عنه هزالا وتعثرا يدعى أنه عربى وهو من العروبة براء. ومسرح لا يقدم شيئا ذا بال، وقد ألغى مهرجانه أو بالأحرى مولده السنوى الذى كان معروفا تفكها «بمولد سيدى التجريبىى ما ينتج منها من الإسفاف. وهيئة للكتاب، كانت تدار هى الأخرى لصالح مولد سنوى آخر هو «القراءة للجميع» تشرف عليه وتديره حرم الرئيس المخلوع التى كانت تحلّى كل إصداراته بصورتها، ولا يعرف أحد ما جرى له، وقد تجمدت أرصدة راعيته، وحومت حولها الاتهامات والشبهات. وهيئة لقصور الثقافة كانت فى فترة سابقة تمثل نبض حركة النشر فى مصر، ولكنها تعثرت منذ أزمة/ فضيحة الروايات الثلاث المشهورة، ولم تنهض من كبوتها حتى الآن.
فالوزارة، التى من المفترض أنها وزارة الثورة، تتخبط بين ممارسات قديمة بالية، يتسم بعضها بالتخلف بالقياس بما كان يقوم به «الوزير الفنان»، وجمود غريب لا يجد له الكثيرون تفسيرا، اللهم إلا رهاب (بضم الراء) الخوف من التغيير. وهو فى ظنى ما جلب شاكر عبدالحميد إلى المشهد علّه يعالج الوزارة منه. صحيح أن التخبط هو سمة كل شىء الآن فى مصر بعد سبعة أشهر من أمجد ثورة فى تاريخها الحديث، وبعد أن أثخنتها مؤامرات الثورة المضادة من الداخل والخارج على السواء، وتقاعس القائمين على أمور البلاد والعباد وتباطؤهم الذى يصل إلى حد التواطؤ.
لكن هذا التخبط العام لا يشفع للثقافة ولا لوزارتها أن تتخبط هى الأخرى، إذا ما نظرنا للأمر من زاوية دور الثقافة الأمثل وأهميتها فى كل مجتمع من المجتمعات، ليس فقط باعتبارها التجسيد الحى لقواه الناعمة القادرة على تقديم صورة مشرقة عنه للعالم الخارجى، ولكن أيضا باعتبارها أداة هذا المجتمع لاستشراف المستقبل، وتقديم النماذج التى ترود خطاه نحو الأفضل. فالثقافة ليست مستودع الخبرات والإنجازات المعرفية والإبداعية للمجتمع فحسب، ولكنها أداته العقلية والضميرية للتغلب على عصاب الخوف من التغيير، وللتخلص من كل الأمراض النفسية منها والاجتماعية التى استوطنت النسيج الاجتماعى والسياسى والثقافى فى مصر على مر العقود الأربعة الماضية.
والواقع أنه إذا ما كان ثمة ما يدعو للتفاؤل بتعيين متخصص فى علم النفس أمينا عاما جديدا للمجلس الأعلى للثقافة، فهو افتراض أن هذا التعيين جاء وعيا من وزير الثقافة الجديد بأن الثقافة المصرية تعانى من الكثير من الأدواء النفسية وغير النفسية، وأن حال الثقافة، وحال مصر كلها، يجعل العلاج من هذه الأدواء ضروريا، بل حتميا، للنهوض بمصر ذاتها من حضيض التردى والهوان الذى رزحت فيه لعقود. فهل سيستطيع أمين المجلس الأعلى للثقافة، بكل دراساته وأبحاثه المستفيضة فى علم النفس تخليص الثقافة المصرية من عصاباتها المرضية تلك؟ والسؤال الأهم، والذى سنترك الإجابة عنه للأسبوع القادم: هل سيستطيع التعامل مع عصابات (بكسر العين) الثقافة التى يمتلئ بها المجلس الذى عين أمينا عاما له؟