اقتراحات لمعالجة قضية الفقر - محمد يوسف - بوابة الشروق
الأحد 22 ديسمبر 2024 4:09 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اقتراحات لمعالجة قضية الفقر

نشر فى : الإثنين 30 سبتمبر 2019 - 11:45 م | آخر تحديث : الإثنين 30 سبتمبر 2019 - 11:45 م

كل من يهتم بقضايا التنمية، لابد وأن تجده يمنح ظاهرة الفقر جزءا رئيسيا من عنايته الفكرية، وتراه حريصا على دراسة وتحليل مسبباتها ونتائجها. فالفقر كداء اجتماعى، وكظاهرة اقتصادية، ليس مجرد موضوع له جاذبية خاصة لدى الباحثين التنمويين؛ بل إليه يرجع الفضل فى تطور علم التنمية كفرع رئيسى من فروع علم الاقتصاد. ذلك لأن الفقر مرتبط بالتنمية برباطين وثيقين؛ الأول أن التنمية تستهدف ــ ضمن ما تستهدف ــ محاصرة ظاهرة الفقر، وتسعى لتضييق الخناق على مسببات زيادة أعداد الفقراء. والثانى هو أنه فى اقتصاد يعانى من تزايد أعداد الفقراء، وتنتشر فيه تجمعاتهم فى القرى وأحزمتهم فى المدن، ستعانى خططه وبرامجه التنموية من قيود تحد من فاعليتها، وستزداد مشقة الطريق الموصل لهذه التنمية.
***
بدعوة كريمة من المركز المصرى للدراسات الاقتصادية، شاركت فى الندوة التى عقدها المركز مؤخرا لمناقشة نتائج بحث «الدخل والإنفاق والاستهلاك» المُعد من قبل الجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء. ولأن الحضور كان على مستوى الحدث، فقد كان من المنطقى أن تدور أغلب نقاشات الندوة حول واقع ومستقبل ظاهرة الفقر فى مصر، وحول المسئولية المزدوجة للسياسات الحكومية عن تفاقمها وفى محاصرتها. وبالفعل، فلقد تفاعل الحاضرون مع البيانات والمعلومات التى خرج بها البحث حول التطور السلبى فى الدخول الحقيقية لمعظم الأسر المصرية فى العامين الماضيين، وحول قدرة هذه الدخول على تغطية استهلاك الأسر للسلع والخدمات الضرورية، وحول ما ترتب على هذه التطورات من تطورات مقابلة فى البناء الطبقى والحراك الاجتماعى فى مصر. وخلصت أغلب نقاشاتهم لمسئولية السياسات المالية والنقدية الحالية فى تعميق ظاهرة الفقر فى الأقاليم الحضرية والريفية، ومسئوليتها كذلك عن تدهور أحوال الطبقات الاجتماعية، وخصوصا الطبقة الوسطى؛ وخلصت كذلك إلى أن الحكومة مطالبة بمد مظلة برامج الحماية الاجتماعية لتشمل فئات جديدة من فقراء الحضر والريف.
وبعدما اختتمت الندوة نقاشاتها، وبينما أتأمل فى بهاء منظر نيلنا الخالد (كانت الندوة منعقدة فى أحد المبانى شاهقة الارتفاع، والمطلة مباشرة على الضفة الشرقية لنيل القاهرة)، طرأت على ذهنى ثلاثة تساؤلات حول مشكلة الفقر فى مصر. إذ هل صحيح أن هذه المشكلة آخذة فى التفاقم فى الوقت الراهن كما يقول البحث؟ وعلى المستوى الكلى، هل من سبيل لمحاصرة هذه المشكلة غير السبيل الحالى للحكومة؟ وعلى المستوى الجزئى، ما هى أنسب السبل لمساندة فقراء مصر؟ أهو سبيل الدعم النقدى المباشر، أم هناك سبل أخرى يمكن للسياسة الاقتصادية أن تسلكها؟
وعلى خلاف ما توصلت إليه نتائج البحث المشار إليه، ورغم أن آراء أغلب الباحثين تتفق على تفاقم مشكلة الفقر فى مصر من حيث عدد الفقراء القابعين تحت «خط الفقر»، فإننى أرى أن الذى يتفاقم ويتطور هو نوع الفقر وليس حجمه. فكيف ذلك؟!
إن التقارير التى تبحث فى تطور ظاهرة الفقر تركز جُل اهتمامها على مقارنة الدخل الفردى والأسرى مع سلة الكفاف المعيشى (السلع والخدمات الضرورية ليحافظ الإنسان على حياته). وبالاعتماد على هذه المقارنة، تحدد هذه التقارير عدد الذين لا تمكنهم دخولهم من شراء هذه السلة، وتدرجهم ضمن الأفراد والأسر التى دون خط الفقر. غير أننى أرى أن تنميط السلوك الاستهلاكى لملايين الأسر هو عملية مشوبة بالقصور، وتعتريها العديد من المشكلات المنهجية. وحتى لو جاز تنحية الملاحظات التى تخص أسلوب التقرير فى قياس حجم ظاهرة الفقر (مثل مدى كفاية عدد الأسر المشمولة بالبحث والاستبيان، وافتراض وجود خط واحد للفقر، والتركيز على الإنفاق المترتب على الدخل دون الثروة، والاعتماد على الدخل المعلن من المبحوثين... إلخ)، وسلمت بصحة ما توصل إليه من نتائج كمية تقول بزيادة أعداد الفقراء، فلن يصح معه اعتبار جميع الأسر كما لو كانت نسخا مكررة من بعضها وهى تقوم بنشاط الاستهلاك. وبما أن الأسر لا تتشابه فى أنماط الاستهلاك، فلا يكون من المنطق السليم أن نهتم بتطورات حجم الأسر الفقيرة ونهمل نوعيتها؛ لأن ذلك سيقودنا لرسم صورة مغلوطة وغير واقعية عن ظاهرة الفقر.
على أن التباين بين حجم ظاهرة الفقر وبين نوعية الفقراء، هو السبب الذى جعل البعض يهون من حجم هذه الظاهرة، وجعل آخرين ينكرون وجودها من الأساس. إذ عندما شاهد هؤلاء أسواق السلع فى القرى الفقيرة والمناطق العشوائية بالمدن تعج بالبائعين والمشترين، تكونت لديهم قناعة بأن الفقر كظاهرة لم يعد موجودا، أو أنه بات فى أضيق حدوده. فها هم الفقراء يبيعون ويبتاعون باستمرار، وحركة الأسواق تثبت أنهم قادرون على إشباع حاجاتهم الأساسية. لكننى أعتقد أن قناعتهم تلك ستزول إذا ما علموا أن الفقر نفسه قد تطور ــ بشكل مطلق ونسبى ــ مثلما تطورت حاجات الإنسان، وكما تطور باقى مظاهر حياته؛ وأن الفقر لم يعد كما كان على صورته فى السابق. فما نحسبه فقيرا هذه الأيام، يمكن أن تراه يحمل هاتفا محمولا، أو يحوز بيته على صنوف من الأجهزة الكهربائية الحديثة، أو قد يحقق، بطرق شتى، اكتفاءه الذاتى حتى من دون الحصول على دعم الحكومة. ورغم كل ذلك، يندرج تحت مظلة الفقراء بشكلها المطلق؛ لكونه لا يمتلك ترف الحصول على تعليم جيد، ولا يسعفه جهاز صحى متطور، وقبل كل ذلك يستهلك نوعية رديئة من السلع. كما أن نوعية الفقر قد تطورت بشكل نسبى مقارنة بتطور نوعية الثراء والغنى. فأغنياء الحاضر ليسوا كأغنياء الماضى، لا من حيث المظهر ولا من حيث الجوهر. وإذا تمكنا من تثبيت الفجوة بين الفقر والغنى، يمكننا أن نرى كيف تطورت مظاهر من نعدهم من الفقراء إذا ما قارناهم مع من نحسبهم أغنياء. ولكل ذلك، فإن نوعية الفقر تستحق اهتماما فائقا من التقارير التى تدرس هذه الظاهرة، حتى يمكنها أن تفرق بدقة بين التغيير فى حجم الفقراء، وبين التغيير فى الفقر ذاته؛ بين «الفقر القديم» و«الفقر الحديث»!
***
على أية حال، فأثناء ذهابى لأستقل سيارتى بعد انتهاء الندوة، أتانى واحد من أولئك الأشخاص الذين يفرضون سطوتهم غير القانونية على أماكن انتظار السيارات فى شوارع القاهرة، وسألنى عن مقابل انتظار السيارة. ورغم أنه تبدو عليه مظاهر وسمات «الفقر الحديث»، قلت لنفسى: ألا يمكن أن يكون هذا الشخص يندرج فى قوائم الواقعين تحت خط الفقر ضمن البحث الذى كنا نناقش نتائجه حالا، رغم أنه من المؤكد يحصل من الإتاوات التى يفرضها على الناس على دخل غير مسجل يبلغ أضعاف قيمة خط الفقر؟! ألا يمكن لانتشار هذه النوعية من الفقراء أن تخصم من جودة هذه البحوث والتقارير، وتجعل نتائجها فى وادٍ، والواقع الفعلى فى وادٍ آخر؟! وإذا كانت نتائج هذه البحوث والتقارير هى التى تعتمد عليها الحكومة فى رسم سياسات محاصرة ظاهرة الفقر، أليس من المتوقع أن تذهب جهود الحكومة سدى، وتضمن من لا يستحقون الضمان، أو ترعى من لا يحتاجون الرعاية؟!
ولقد بينت فى موضع سابق أن تحديد نوعية الفقر المحتاج لرعاية ودعم، يتفوق، من حيث الأهمية والأثر، على التحديد الكمى للفقراء، ويتساوى مع التحديد الجغرافى والمكانى لهم. فمن خلال هذا التحديد النوعى للفقر، وبعد تحديد تجمعاتهم ومناطق انتشارهم، يمكن تطوير حزم حكومية لدعم الفقراء، ويمكن تحديد أنسب الطرق لتحسين دخولهم لتتماشى مع تطور احتياجاتهم. أما إذا قال قائل بأن تقديم الدعم النقدى المشروط للعديد من الفقراء (ضمن برامج «تكافل وكرامة»)، يساعد فى التغلب على مشكلة النوع، ويراعى، فى ذات الوقت، الاستهداف الصحيح لأفقر فقراء مصر. فإن هذا القول وإن كانت له وجاهته، فإنه مردود عليه بأن الطريقة المحسوب بها المستفيدون من هذه البرامج لا تراعى غير الدخل المسجل، وتصطدم ببعض العراقيل التى تحول دون الاستهداف الصحيح لنوعية الفقراء المحتاجين لهذا الدعم. ولكل ذلك، فإن الطريقة الحكومية الحالية للدعم المباشر ينقصها أن تعرّف بدقة نوعية الفقراء الواجب دعمهم، وألا تكتفى بوضع عدد من الشروط الكمية لاستحقاق مبلغ الدعم. فنوعية الشروط المطلوبة يجب أن تراعى نوعية الفقر المستهدف، كى تتحقق الاستفادة القصوى من هذه البرامج الحكومية.
وإذا كان من الممكن عقلا أن يحدث قصور فى ميكانيكية الاستهداف للبرامج الحكومية، فماذا يمكن أن نصنع إزاء هذا القصور، حتى تنخفض التكاليف الكلية لدعم الفقراء؟ أعتقد أنه ليس بوسعنا أن نصلح هذا القصور بدون العمل على محور تنظيم الاقتصاد غير المنظم (راجع رأيى حول هذا التنظيم فى مقال سابق لى فى هذه الزاوية). فبدون هذا التنظيم، ستظل الهوة متسعة بين الدخل المسجل والدخل الحقيقى، وستعجز الإجراءات الحكومية عن وضع تعريف دقيق للفقر، وستفشل فى تحديد نوعية الفقراء المستهدف مساندتهم.
ولكيلا تصبح برامج الدعم الحكومى كمن يعطى للمحتاج سمكة ولا يعلمه كيفية صيدها، فإننى أعتقد أنه من الضرورى زيادة درجة التنسيق والتكامل بين برامج الضمان الاجتماعى، وبين السياسات النقدية التى تيمم وجهها شطر الفقراء. فإذا كانت لدينا الآن سياسة نقدية تحاول تقديم حزم تمويلية لتشجع استثمارات الفقراء، فإن معيار النجاح الأول لها يجب أن يكون مدى قدرتها على خلق تجمعات استثمارية للفقراء؛ لتكون قادرة على تلبية احتياجاتهم بشكل مستدام، ولتكون خالقة لفرص عمل تلائم ظروفهم. والمعيار الثانى لنجاح هذه السياسة هو أن ترفع المستفيدين منها فوق خط الفقر، كى لا يحتاجون لمساندة إضافية من البرامج الحكومية.
***
لقد حاولت الفقرات السابقة أن تسلط بعض الضوء على جانب مهم من جوانب ظاهرة الفقر فى مصر، متوسلة فى ذلك بالتركيز على التطور فى نوعية الفقر لا فى حجمه فقط. وإذا وجد القارئ أنها قد حققت هدفها، فلا أنسى أن أثمن له جهود المركز المصرى للدراسات الاقتصادية فى التوعية بقضايانا الملحة، طالما تناولها بطريقة تنموية تتفق مع طبيعة مشكلاتنا الاقتصادية. كما لا يبقى لى، بعد ذلك، سوى أن أدعو الله سبحانه أن يحفظ لنا نيلنا العظيم؛ والذى لولاه ــ بعد الله ــ لوقعت مصر كلها تحت خط الفقر!

محمد يوسف باحث رئيسي في مركز تريندز للبحوث والاستشارات بدولة الإمارات
التعليقات