نعيش اليوم فى مرحلةٍ تاريخيّة يتباين فيها كثيرا تطوّر تموضع الهويّتين العربيّة والكرديّة. لا بدّ من الحوار ورؤية الواقع كما هو. الهويّة العربيّة فى مرحلة تراجع وباتت تنحصر فى دول الخليج العربى (ومصريّو اليوم يقصدون الخليجيّين تحديدا عندما يتّحدثون عن «العرب» وكذلك أغلب الغربيّين). بريطانيا وفرنسا خانتا حلم إنشاء «مملكة عربيّة» أثناء الحرب الأولى، ثمّ تمّ كسر المدّ القومى العربى الناصرى فى حرب 1967، كى تدخل البلدان العربيّة فى عصر صعود «الهويّات الوطنيّة» لدول ما بعد التقسيم الاستعمارى (شعار «الأردن أوّلا» مثلا فيما بقى من إرث «المملكة العربيّة»). بل عاد التلاعب الخارجى فى الهويّات ما دون الوطنيّة، طائفيّة أو إثنيّة، كما فى زمن استعمار القرن التاسع عشر.
نفس القوى الاستعماريّة خانت أيضا حلم «الدولة الكرديّة» عند فكفكة الإمبراطورية العثمانية (فهم لم يوفوا سوى بوعد بلفور). وتوزّع حاملو الإرث الثقافى الكردى بين تركيا والعراق وسوريا وإيران. إلاّ أنّ مسار اندماج الكرد فى الهويّات الوطنيّة خلال القرن العشرين كان متباينا بين هذه البلدان. لقد تحوّل فى تركيا، بعد مرحلةٍ أولى من الاندماج، إلى صراعٍ دامٍ طويل، وكذلك فى العراق. بينما اندمج الأكراد بشكلٍ أكثر سلاسةً وعمقا فى إيران كما فى سوريا. انتهى الأمر فى العراق بحكمٍ ذاتى منذ زمن سيطرة حزب بعثه «القومى العربى»، وبتكريس هذا الحكم الذاتى دستوريّا بعد غزو العراق. بالمقابل من الواضح اليوم أنّ الهويّة الكرديّة فى مرحلة صعود، خاصّةً مع تطوّرات «الحرب السوريّة». وباتت عابرة للدول التى ينتمى الكرد إليها. بل تتفجّر الآن فى إيران مع الانتفاضة التى قامت انتصارا لحريّة النساء فى لباسهنّ، بعد حادث وفاة «مهسا (جينا) أمينى» الكرديّة الثقافة.
ويتعاظم صعود الهويّة الكرديّة بالدعم الواسع الذى تلقاه من الجاليات الكرديّة المهاجرة خاصّةً فى أوروبا (ألمانيا والسويد التى اعتمدت فى الماضى سياسات تفضيليّة لاستقبال الكرد والآشوريين) وكذلك من «مثقفين» غربيين بخلفيّات متعدّدة. فى ظلّ صعود موجة التشنّج ضد الإسلام (الأوروبى بالمناسبة) ومشاكل اندماج الجيل الثالث من مجتمعات المهاجرين المغاربيين والأتراك هناك. مع صورة نمطيّة يتمّ ترويجها أنّ إسلام الكرد أكثر انفتاحا من انفتاح العرب والأتراك وأنّهم ينتصرون أكثر لحقوق النساء.
• • •
فى الواقع، لا معنى أن تتحاور «هويّات» مع بعضها البعض. فهى «هويّات»، أى مشاعر انتماء. الحوار هو بين مواطنين فى دول قائمة اليوم، حول هذا الواقع ومستقبله. والحوار الأساس الذى يخفّف «صراع الهويّات» المزعوم هو أوّلا بين مواطنى تركيا، بما أنّ أغلب الكرد ينتمون إلى تركيا اليوم، حول كيفيّة إنهاء الصراع الطويل بين التركمان (الذين ليسوا كالعثمانيين متعدّدى الهويّات) وبين «أتراك الجبل»، كما تمّت تسمية الكرد فى ظلّ صعود القوميّة التركيّة. ومن الصعب جدّا أن يتركّز هذا الحوار حول حقّ الكرد فى تقرير المصير، أى فى الاستقلال عن تركيا وتحقيق حلم دولة كردية جامعة، مع ما يترتّب على ذلك من تفكّك الدول القائمة حاليّا.
فى الحالة السوريّة، المقصود هو الحوار بين مواطنى سوريا، بين أولئك الذين تعاظمت عندهم مشاعر الهويّة الكرديّة وأولئك الذين ما زالوا يحملون مشاعر هويّة عربيّة، لم تأفُل رغم كلّ ما حدث، ربّما لأنّ جرح فلسطين ما زال ينزف. والحوار هو عن أوضاع اليوم... والمستقبل.
ليس الحوار محصورا بين من ينادى بهاتين الهويّتين وحدهما بين السوريين. بل هو أيضا حوارٌ متعدّد الأبعاد مع من ينادى بالهويّات التركمانيّة والأرمنيّة وبالهويّات الدينيّة والمذهبيّة ويحاول أن يفرضها أساسا لعمل الدولة. إنّه بالضرورة حوارٌ مفتوح حول معنى المساواة فى المواطنة وترابطها مع ثقافة الهويّات، فى بلادٍ أتت ميزتها التاريخيّة من أنّها لم تُلغِ هذه الثقافات والهويّات وتقمعها وتُمحيها (كما حصل فى معظم الدول الأوروبيّة الحديثة)، وذلك لأسبابٍ كثيرة اجتماعيّة وسياسيّة. أهمّها أنّها تأسّست منذ القدم على هويّات مدينيّة، دمشقيّة وحلبيّة وحمصيّة وغيرها فى سوريا، صهرت ثقافات سكّانها ببوتقةٍ واحدة رغم تنوّعهم. هذا ولا شكّ فى أنّ دمشق وحلب سوريا وكذلك دير الزور والرقة... والمدينة الأحدث، القامشلى، التى ورثت حضارة مدينة نصيبين التاريخيّة، عربيّا وكرديّا وآشوريّا.
وهكذا وصل عدّة رجالات ذوى أصولٍ كرديّة (محمد على العابد وحسنى الزعيم وفوزى سلو وأديب الشيشكلى) إلى سدّة الرئاسة فى سوريا... «قلب العروبة النابض» دون أن تثير هذه الأصول أيّة حفيظة ودون الحاجة إلى دستورٍ مثل الدستور الذى أقرّ فى العراق.
لكن طوال سنين قمعت السلطة فى سوريا الثقافة والهويّة الكرديّتين، حتّى للاحتفال بعيد النوروز. ولم تقم بجهدٍ تنموى حقيقى فى مناطق الجزيرة، حيث تتأصّل النزعة العشائريّة عربيّا وكرديّا، رغم التحوّلات الاقتصادية والاجتماعية التى شهدتها المنطقة، خاصّةً منذ عام 2000. وقد أدّى غياب هذه التنمية إلى هجرة كبيرة للسكّان نحو المدن والخارج، كما إلى تشنّجات اجتماعيّة تفجّرت عام 2004 بسبب... لعبة كرة قدم. كما تُرِكَت قضيّة الجنسيّة السوريّة لكثيرٍ من كرد سوريا معلّقة عقودا، رغم أنّها نشأت منذ ما قبل الحقبة البعثيّة. تماما كما تمّ ترك أحداث حماة وريف إدلب الطائفيّة الدمويّة فى أواخر السبعينيات جرحا مفتوحا يُمكِن أن يتفجّر فى أيّة لحظة... ثمّ تفجّر.
• • •
لكنّنا اليوم بعد عشر سنوات مضت على 2011، تاريخ بداية «ثورة» سوريا و«حربها الأهليّة». وبالضبط اليوم يتضمّن الحوار أساسا محاولة إجابة جميع السوريين عن بعض الأسئلة المصيريّة. أهمّها هو السؤال عمّا إذا كانت إعادة توحيد سوريا، التى تمّ تقسيمها بين مناطق نفوذ لقوى خارجيّة، هى الأولويّة؟ هذا رغم أنّ هناك أولويّات أخرى يطرحها هذا الطرف أو ذاك. أولويّات تتضمّن المشروع الإسلامى أو الكردى، أو الصراع بين السنّة والشيعة (إيقاف المدّ الشيعى)، أو فى المقابل «إسقاط النظام» أو معالجة الإشكاليّات الطائفيّة والإثنيّة؟
الإجابة عن سؤال (ما هى الأولويّة؟)، ليست سهلة. وتتطلّب نظرة نحو المستقبل، أبعد من تلاعب السلطة كما القوى الخارجيّة على قضايا الهويّات. خاصّةً وأنّ جيلا جديدا قد نشأ لا يعرف ما كانت عليه سوريا قبل الصراع، وأنّ سوريا والشعب السورى وصلوا إلى منعطفٍ ذى أبعادٍ وجوديّة.
واضحٌ أنّ ترسيخ الأوضاع الحاليّة سيؤدّى إلى تقسيمٍ فعلى للبلاد، ربّما تعمل عليه أصلا بعض القوى الخارجيّة... والسوريّة. وواضحٌ أنّه تمّ استبعاد ممثّلى «الإدارة الذاتية» (وقوامها حزب الاتحاد الديموقراطى الكردى الهويّة) القائمة فى الشمال الشرقى، إلاّ هامشيّا، من آليّة التفاوض تحت رعاية الأمم المتحدة فى جنيف. هذا فى حين يتضِح أيضا أنّ سياسات الحكومة التركيّة تجاه سوريا بدأت تتغيّر جوهريّا، وليس فقط لأسبابٍ تكتيكيّة انتخابيّة. وأنّ الشعب السورى فى مختلف مناطق السيطرة قد تُرِك للفقر والفوضى مع تقلّص «مساعدات تجميد الوضع القائم» فى زمن الصراع العالمى القائم فى أوكرانيا وغيرها.
لا بدّ بالنتيجة من حوارٍ حقيقى بين جميع السوريين يذهب أبعد من طروحات الهويّات و«المكوّنات» الطائفيّة والإثنيّة، واللامركزيّة فى إدارة ثروات الأرض، حول... الدولة الموحّدة، دولة المساواة فى المواطنة والحريّات... بما فيها الحريّات فى ثقافة الهويّات. حوارٌ لن تفيد فيه القوى الخارجيّة سوى بوعود... ستُنكِث بها حين تتحقّق مصالحها.
رئيس التحرير السابق للوموند ديبلوماتيك النشرة العربيةــ ورئيس منتدى الاقتصاديين العرب