يلاحظ المراقب للأوضاع فى سوريا، ومن حولها، أنها آخذة فى التطور بشكل متسارع خاصة فى الفترة الأخيرة، تجلَّى ذلك بالطبع فى الاتفاق التاريخى لنزع السلاح الكيماوى السورى، ثم الاتفاق التاريخى أيضا المتعلق بتحجيم البرنامج النووى الإيرانى والحفاظ على طابعه السلمى، وتداعيات ذلك الاتفاق على العلاقات المستقبلية بين إيران والغرب فيما يتعلق بمنطقتنا على وجه الخصوص.
على الأرض تزداد المعارك شراسة خاصة تلك التى يشنها النظام، غير أنه لا يمكن فصل التقدم الذى تحرزه قوات النظام على بعض الجبهات، على الدعم السخى الذى تحصل عليه من قبل حزب الله اللبنانى، ومن ميليشيات شيعية أخرى قادمة من العراق، كل ذلك داخل الحضَانة الإيرانية الكبيرة. وجاءت تصريحات أمين عام حزب الله الأخيرة استفزازية لطوائف لبنانية عديدة، وذلك عندما أعلن أن حزبه باق فى سوريا ما شاءت إرادة الأسد ذلك. تحدى حزب الله بذلك الموقف الرسمى اللبنانى الحريص على النأى بلبنان عن التورط فى النزاع السورى. فنرى سعد الحريرى رئيس تيار المستقبل يصف موقف حزب الله بأنه «وقوف مع الظالم ضد شعب مظلوم»، وان الاختيار الذى اعتمده الحزب فى سوريا هو «اختيار سيلعنه التاريخ». ولا أعلم ان كانت زعامات حزب الله ستستمر، موقف التحدى هذا، بعد الصفقة التى عقدتها إيران مع الغرب والصين حول برنامجها النووى، وتداعيات ذلك التقارب الجديد على دور إيران فى المنطقة؟ والتساؤل الآخر هو ما إذا كانت التفجيرات الأخيرة فى بيروت الموجهة إلى إيران وحزب الله على حد سواء، ستجعل الحزب أكثر حرصا فى التعامل مع الأزمة السورية وذلك من أجل الحد من تداعياتها الخطيرة على الساحة اللبنانية وزيادة فرص تفجرها فى وجه الجميع؟.
وعلى الجانب المقابل لذلك الدعم الشيعى المتعدد المصادر لقوات الأسد، يستمر تدفق العناصر الجهادية عبر الحدود التركية من مختلف بقاع العالم بما فى ذلك الدول الغربية. يأتى ذلك وسط اتهامات لتركيا بأن تقوم بتسهيل عبور ذلك المدد من العناصر المتطرفة، فى مقابل نفى تام من قبل تركيا لهذه الادعاءات. إنما يبقى ان تلك العناصر الجهادية والتكفيرية يشتد عودها يوما بعد يوم، وأصبحت تسيطر على أجزاء كبيرة من البلاد وخاصة مناطق شرق سوريا الغنية بالبترول. وتجد المقاومة الوطنية السورية التى تلتف حول الجيش السورى الحر بين فكى كماشة؛ من جانب قوات النظام من ناحية، وتلك الميليشيات التكفيرية من ناحية أخرى. ثم جاءت الجهة الجديدة التى أُعلن عنها مؤخرا والتى تضم ست فصائل إسلامية (ليس من بينها الفصائل المرتبطة بتنظيم القاعدة) بمثابة تحدٍ جديد للجيش السورى الحر!
إذن فالموقف فى سوريا هو مزيج من المواجهات الداخلية ومن التدخلات فى آن واحد. بل إن مواقف الأطراف الخارجية تكاد تصطدم مع بعضها البعض حول الأزمة السورية. فعلى سبيل المثال لا ترضى السعودية ودول الخليج على اسلوب تعامل الولايات المتحدة مع الأزمة السورية، وترى فيه تخاذلا واضحا، فتح الباب على مصراعيه أمام تدخل شيعى من جانب، وانخراط جهادى تكفيرى على الجانب الآخر. وصل الحد بوزير خارجية السعودية ان يعلن فى حضور وزير الخارجية الأمريكية ان سوريا أصبحت دولة مُحتَلّة سواء أكان ذلك من قبل إيران أو من قبل حزب الله. لم يُحدث ذلك الموقف السعودى أى تغيير فى الموقف الأمريكى، حيث تمسكت بأنه «ليس هناك ثمة حل عسكرى للأزمة السورية». إذن قُضى الأمر بالنسبة للموقف الأمريكى وما يتوقع فيه (أو بالأحرى ما لا يتوقع منه).
بارقة أمل جديدة قد ظهرت فى الأفق فى أعقاب الاتفاق النووى مع إيران الذى تم التوصل إليه يوم 24 نوفمبر الحالى، والذى مثّل انتصارا لانصار السلام على دعاة الحرب وعلى رأسهم إسرائيل. تكمن أهمية هذا الاتفاق بالطبع وهو اتفاق مرحلى لستة أشهر يمهد السبيل لاتفاق شامل فى تحجيم البرنامج النووى الإيرانى وحصره فى ناحية الاستخدام السلمى، وكذلك تأثيره على مجمل الأوضاع فى منطقة الشرق الأوسط بما فى ذلك الأزمة السورية. لا تخضع إيران طوال فترة الستة أشهر المشار إليها لرقابة صارمة لأنشطتها النووية، انما لاختبار لنياتها ومدى استحقاقها للثقة التى منحتها اياها الدول الغربية. ومن الطبيعى انه كلما زادت إيران من رصيد الثقة لدى العالم الخارجى فى مسلكها، أمكن تصور تحول إيران من كونها جزءا من المشكلة السورية على سبيل المثال، إلى ان تصبح جزءا من الحل. وينسب إلى مصدر إيرانى انه جرى بالفعل التطرق إلى المسألة السورية فى لقاءات بين الولايات المتحدة وإيران جرت على هامش اجتماعات 5+1 قبل الأخيرة، على أن يتم الدخول فى تفاصيل ذلك بعد التوصل إلى الاتفاق النووى، وهو ما تم بالفعل يوم 24 نوفمبر الحالى. وأكثر من ذلك تحدث وزير خارجية إيران وفقا لمصادر صحفية عن امكانية استخدام إيران لنفوذها للدفع فى اتجاه سحب كل القوات الأجنبية من سوريا! كلام هام للغاية، وأفلح إن صدق!
جاء الترحيب السعودى بالاتفاق النووى مع إيران مشفوعا بعدد من التحفظات جاءت فى محلها تماما. فالاتفاق وفقا لما صدر عن السعودية يمكن ان يشكل خطوة أولى فى سبيل التوصل إلى حل شامل، «إذا ما اقترن ذلك بتوافر حسن النية». وان مثل ذلك الحل سيكون مكتملا حقيقة إذا ما أدى إلى وجود شرق أوسط خال من أسلحة الدمار الشامل. هذا الموقف السعودى الواضح يبدد الانطباعات التى حاولت إسرائيل ترويجها (قبل صدور بيان السعودية) بأن إسرائيل والسعودية انما يجمعهما فى خندق واحد فى معارضتهما للاتفاق مع إيران.
والواقع ان تعبير «توافر حسن النية» الذى حرصت السعودية على إبرازه، يمكن ان ينصرف أيضا إلى مجمل المواقف والممارسات الإيرانية فى المنطقة. ويمكن تصور حرص إيران فى ظل تقاربها الجديد مع الدول الغربية على ان تحدَّ من أى تصرفات لا تخدم ذلك التقارب مع الغرب، أو تقوض أى محاولات لبناء الثقة مع الغربى والعربى على حد سواء.
نحن إذن أمام تنسيق للمواقف بين الدول الكبرى أثمر عن التوصل إلى الاتفاق النووى مع إيران، تماما كما أسهم التوافق الروسى الأمريكى فى الوصول إلى الاتفاق الخاص بالسلاح الكيماوى السورى قبل ذلك. ويأتى الاتفاق على يوم 22 يناير المقبل كموعد لبدء اجتماعات مؤتمر جنيف الثانى الخاص بسوريا (والذى قد يكون بمشاركة إيران هذه المرة بصورة أو بأخرى) بمثابة امتداد لذلك الوفاق الجديد. والأمل معقود ان يتمكن المشاركون من التوصل إلى آلية تضمن تنفيذ كافة البنود التى تم الاتفاق عليها فى مؤتمر جنيف الأول.