بالرغم من أن «إريك رولو» خصص فصلا واحدا لعبدالناصر فى كتابه الرائع «فى كواليس الشرق الأوسط» إلا أن عبدالناصر ظل يظهر فى جميع فصول الكتاب.. وللذين لا يعرفون «إريك رولو» فهو صحفى فرنسى من أصل مصرى وكان رئيسا لقسم الشرق الأوسط فى جريدة لوموند، ومن أبرز العارفين بشئون الشرق الأوسط، وقد وصف الأخضر الإبراهيمى كتابه هذا بأنه مرجعا ثمينا للجيل العربى الناشئ، وقد ولد «رولو» بالقاهرة ودرس بالمدارس والجامعات المصرية وكان يقرأ ويكتب ويتكلم العربية بطلاقة أهلها، وكان يعتبر نفسه مصريا حتى النخاع حيث كان يقول أنا يهودى الديانة وفرنسى الجنسية ومصرى حتى النخاع.. وفى هذا المقال سأحاول أن أعرض باختصار صورة عبدالناصر، كما عرفه «إريك رولو»، الذى حاوره أكثر من مرة فى حوارات طويلة صريحة حاول فيها عبدالناصر أن يفتح قلبه حسب تعبيره.
***
وقد تحدث «إريك رولو» عن علاقة عبدالناصر باليهود ومشاعره تجاههم فقال إنه على عكس ما كانت تدعيه السلطات الإسرائيلية، لم يكن عبدالناصر معاديا للسامية، وهو ما أكده جيرانه القدامى من اليهود، وقد ظل جمال مرتبطا بصداقة وطيدة مع جيرانه اليهود حتى أكتوبر 1956 حينما حدث العدوان الثلاثى على مصر وهو الحدث الذى أطلق رصاصة الرحمة على الطائفة اليهودية فى مصر.
ويذكر الكاتب أنه على إثر تولى عبدالناصر مسئولية الحكم فى مصر، حدد فى حديث لصحيفة «فورين أفيرز» الأمريكية فى عددها الصادر فى ديسمبر 1954، حدد أعداء الشعب المصرى الثلاثة كالتالى: «الشيوعيون، والإخوان المسلمون والسياسيون المنتمون للنظام القديم»، وأضاف أن برنامج مؤسس على أهداف ثلاثة، هى: «الإصلاح الزراعى وإجلاء القوات البريطانية وإنشاء بنك صناعى»، ولم يرد أى ذكر لإسرائيل أو تحرير فلسطين فى هذا البرنامج.
ولا شبر واحد ولا لاجئ واحد
ويقول الكاتب أن عبدالناصر فى حواره معه عام 1964 ذكر أنه يتعين على إسرائيل إعادة الأراضى المحتلة (يقصد خارج حدود الدولة اليهودية التى حددها قرار التقسيم) وإعادة اللاجئين أو تعويضهم، فى مقابل السلام مع العرب والعلاقات الطبيعية، وكان هذا التصريح يعد تنازلا كبيرا فى وقت كانت كلمات «المصالحة والسلام والتطبيع» تعد كلمات بذيئة فى قاموس السياسة العربية.
وقد انتهز «إريك رولو» فرصة مقابلة مع ليفى أشكول رئيس الوزراء الإسرائيلى لكى ينقل إليه كلمات عبدالناصر، ويقول إريك رولو: «ولما كنت على دراية باعتدال الزعيم الإسرائيلى وميله للحلول الوسط فقد كنت انتظر أى شىءسوى رد فعله الحاد عندما باغتنى بقوله: «ولا شبر واحد ولا لاجئ واحد».
وقد خلص الكاتب إلى أنه لا يوجد فى إسرائيل صقور وحمائم وأن معظم قادة إسرائيل يرون أن السلام ليس فى مصلحة إسرائيل، وأن بعض المؤرخين الإسرائيليين مقتنعون بأن بن جوريون كان يتمنى نشوب نزاع مسلح من شأنه توسيع رقعة الدولة اليهودية والتخلص من غالبية السكان الأصليين، وقد ثبت فيما بعد أن الدول العربية قد عرضت على الحركة الصهيونية فى اتصالات سرية عام 1948 تأجيل إعلان قيام إسرائيل لمدة ثلاثة شهور فقط للتوصل إلى حل وسط، ولكن بن جوريون رفض ذلك رفضا قاطعا، حيث كان يتطلع إلى الحرب وقد كتب سرا إلى زميله موسى شاريت المبعوث لدى الولايات المتحدة يقول: «بوسعنا أن نحتل كل فلسطين، ليس لدى أدنى شك فى ذلك».
***
كان عبدالناصر حريصا على تجنب الحرب فى ظل كل الظروف.. فقد أبلغ الأمريكيين قبيل نشوب حرب يونيو 1967 بأسبوع أنه سيغمض عينيه عن عبور السفن الإسرائيلية لمضيق تيران، وأنه سيوفد زكريا محيى الدين إلى واشنطن لمحاولة تفادى النزاع المسلح، وأنه مستعد لاستقبال هربرت همفرى نائب الرئيس الأمريكى لكى ينظر فى تسوية شاملة للنزاع (وقد تم نشر هذه النصوص ضمن سجلات وزارة الخارجية الأمريكية التى نشرت بعد عشرين سنة).
وقد اعترف الإسرائيليون بعد ذلك بأن عبدالناصر لم يكن يرغب الحرب فى عام 1967 فقد صرح الجنرال رابين فى فبراير 1968 بذلك وأضاف أن «عبدالناصر كان يتظاهر وكان كلانا يعلم ذلك.. نحن وهو »، كما قال مناحم بيجين فى عام 1982 بلا مواربة.. «لنكن أمناء مع أنفسنا.. لقد كنا نحن من قررنا المبادرة بالحرب ولم يكن عبدالناصر راغبا فيها..».
أما بن جوريون فقد كان حانقا على القادة الإسرائيليين «الذين لم يدخروا جهدا من أجل افتعال نزاع مسلح لم يكن عبدالناصر راغبا فيه»، حيث كان بن جوريون يرى «الأراضى المحتلة بمثابة تهديد مميت للكيان الإسرائيلى».. وكان بن جوريون يرى سرعة إعادة الأراضى المستولى عليها مقابل سلام كامل، إلا أنه كان فى قرارة نفسه يرى أن السلام مستحيل على الأقل فى المستقبل المنظور، وقد أسر لناحوم جولدمان رئيس المجلس الصهيونى العالمى «لو كنت قائدا عربيا، ما كنت لأبرم أبدا معاهدة سلام مع إسرائيل، وهذا أمر طبيعى.. لقد أخذنا أرضهم».
***
وقد ظل عبدالناصر لآخر لحظة يدعو للسلام ويتخذ المبادرة تلو الأخرى، ففى حديث مطول فى يناير 1970 دام أكثر من ساعتين ونصف الساعة مع إريك رولو وفى خضم حرب الاستنزاف ها هو عبدالناصر يصرح بلا مواربة أنه مستعد « لإقرار سلام دائم مع إسرائيل وإقامة تطبيع كامل على مراحل فى مقابل حل مشكلتين: الأراضى المحتلة واللاجئين »، ويعلق الكاتب على ذلك بأن المفاجأة هى استخدام عبدالناصر لكلمة «اللاجئين» وعدم ذكره «الشعب الفلسطينى وحقوقه الوطنية». وقد نشر نص هذا الحوار فى جريدة الأهرام كاملاً حتى لا يقال إنه كلام موجه للاستهلاك الأجنبى.
وبالرغم من ذلك فقد سارعت إسرائيل برفض المبادرة ورأت رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير أنها «لم تأتِ بجديد»، وأضافت ــ حتى تقطع أى أمل لدى عبدالناصر بمواصلة المبادرة ــ «إن إعادة سيناء أمر غير مطروح بالمرة حتى مقابل السلام والتطبيع الدائم » إلا أن عبدالناصر لم يتوقف عن تقديم مبادرات للسلام، ففى شهر مارس من نفس العام أى عام 1970 أرسل العقيد أحمد حمروش وهو من الضباط الأحرار إلى باريس لمقابلة إريك رولو، حيث أبلغه أنه مكلف من عبدالناصر بتوجيه دعوة للدكتور ناحوم جولدمان رئيس المجلس اليهودى العالمى لزيارة القاهرة.
وكانت تلك خطوة غير مسبوقة وتهدد بإثارة عواصف من الاستنكار فى العالم العربى، وقد قام رولو بتهيئة لقاء بين حمروش وجولدمان الذى تلقى الدعوة بحماسة بالغة، وطار جولدمان مسرعا إلى القدس «بقلب منشرح وكله ثقة أن جولدا مائير والقادة الإسرائيليون سيسعدون بهذه الخطوة التاريخية والتى لا تلزمهم بأى شىء».
وقد رفضت جولدا مائير المبادرة قائلة إن السلطات الرسمية وحدها هى المنوط بها مدير حوار مع العدو، وهكذا أُجْبِر جولدمان على الاعتذار عن دعوة عبدالناصر.
أما فى مصر فقد سارعت وسائل الإعلام إلى محاولة محو ما اعتبرته بمثابة إهانة للرئيس، فنشرت صحيفة الأهرام تحت عناوين كبرى «إن قضية جولدمان مختلفة من أولها لآخرها ».
لكن ذلك لم يحل دون مواصلة عبدالناصر السير فى الطريق الذى رسمه، ففى الخطاب الذى ألقاه فى الأول من يوليو عام 1970 « حيا دعاة السلام فى إسرائيل، وأكد بعد ذلك صحة دعوته لناحوم جولدمان وذلك فى اجتماع سرى للاتحاد الاشتراكى، وقد اكتمل توثيق المعلومة فى المذكرات التى نشرها أحمد حمروش بعد ذلك باثنى عشر عاما».
***
سكة الأوهام
وعند قبول عبدالناصر لمبادرة السلام التى أطلقها ويليام رودجرز وزير الخارجية الأمريكى اندلعت المظاهرات الغاضبة فى جميع الدول العربية تتهم مصر بالخيانة وارتكبت إذاعة فلسطين، التى تبث برامجها من القاهرة خطأ فادحا بمهاجمة عبدالناصر بالاسم فتم إغلاق المحطة وطرد معظم كوادر المنظمات الفلسطينية الراديكالية.
وعلى أثر ذلك أوفدت منظمة التحرير وفدا برئاسة عرفات للقاء عبدالناصر الذى قال لهم: « أحسن لكم تقبلوا بفلسطين مصغرة فى الضفة وغزة.. لأن شعبكم مش هيمشى وراءكم فى سكة الأوهام.. يعنى الناس لما تتمرمط عشرين سنة فى مخيمات اللاجئين صعب عليهم أن يتحملوا أحلام أهل السياسية»، وأضاف: «ما تقلقوش من مشروع رودجرز لأنه مكتوب عليه الفشل على يد إسرائيل.. ولكن حتى لو نجح فمفيش حاجة تمنعكم من مواصلة الكفاح».
وقد أعرب عرفات ونائبه أبوإياد عن رضائهما التام عن تفسيرات عبدالناصر، وأبلغا كوادرهما بوجوب استرضاء الرئيس المصرى لأن معاداته هو نوع من الانتحار.
ويقول الكاتب إنه بعد ذلك بشهور قلائل أعلن عن وفاة عبدالناصر المفاجئة أثر نوبة قلبية أودت بحياته عن اثنين وخمسين عاما، أما الناصرية فقد كانت تحيا أيامها الأخيرة، وهى المحتضرة فعليا منذ هزيمة 1967، كما أخذت القومية العربية تأفل تدريجيا تاركة مكانها للحركات الإسلامية.