هل ندم الاتحاد الأوروبى على تورطه فى الحرب الليبية التى أطاحت بحكم معمر القذافى؟ لم تقدم أوروبا عسكريا واحدا ضحية فى تلك الحرب التى حصدت عشرات الآلاف من الضحايا، ولكنها تمكنت من إبراز عضلاتها العسكرية لأول مرة منذ حرب البوسنة فى منتصف التسعينيات من القرن الماضى. فى الواقع كانت تلك عضلات أطلسية. وقد أثبتت وقائع الحرب الليبية أنه لولا المشاركة العسكرية الأمريكية لما تمكنت القوات الأطلسية من حسم الحرب بتلك السرعة. وهو ما أثبتته قبل ذلك المشاركة الأمريكية فى حرب البوسنة، ليس لأن القذافى كان يملك جيشا حديثا أو لأن ميلوسوفيتش كان يدير جيشا صربيا قويا، ولكن لأن أوروبا لم تعد لها إرادة قتالية. بل أنها فقدت حتى شهيتها على القتال. وفقدت تبعا لذلك الكثير من أدواتها القتالية باستثناء الاستعراضية منها. لم تعد المجموعة الأوروبية ترغب حتى فى المشاركة فى قوات حفظ السلام فى أى منطقة فى العالم. فدبلوماسيتها الخارجية أصبحت تقوم على عاملين أساسيين هما المال والمقاطعة. أى المساعدة الاقتصادية والعقوبات الاقتصادية. وحتى بعد وقوع الأزمة المالية، فإن المجموعة الأوروبية لاتزال قادرة على استعمال سلاح المال؛ مساعدات وهبات وقروض.. كما أنها لاتزال قادرة على استعمال سلاح العقوبات والمقاطعة ضد أى دولة تتمرد على مصالحها الاستراتيجية أو تشكل خطرا على هذه المصالح.
ولعل الشرق الأوسط هو أبرز مناطق العالم التى تتمظهر فيها هذه السياسة الأوروبية الجديدة. فالاتحاد الأوروبى يفرض الآن عقوبات على سوريا على خلفية سلوك النظام الدموى، كما يفرض عقوبات على إيران على خلفية ملفها النووى. ومنذ عام 2010 فرض الاتحاد الأوروبى عقوبات محدودة على مصر وليبيا وتونس، كما فرض الحظر على زيمبابوى وساحل العاج، وفى أوروبا فرض الحظر على بيلاروسيا، وفى آسيا على ميانمار إلى أن تراجعت هذه الدولة عن سياستها الاستبدادية.
ولكن إذا كان سلاح العقوبات أثبت فاعلية فى ميانمار، فإنه لم يثبت هذه الفاعلية لا ضد نظام الرئيس العراقى السابق (صدام حسين) ولا ضد النظام الإيرانى الحالى. غير أن أهم ما فى هذا السلاح هو انه يشهر ضد الدولة التى توجه إليها العقوبات باسم 27 دولة عضو فى الاتحاد الأوروبى. ولذلك فإن للعقوبات قوة ضغط معنوية إضافة إلى قوة الضغط الاقتصادية. ومن خلال هذه القوة يحاول الاتحاد الأوروبى أن يثبت وجوده فى لعبة الأمم بدلا من القوة العسكرية التى كان يلجأ إليها فى السابق.
فالتوافق بين الدول الأعضاء على إقرار المقاطعة والالتزام بها يصور الاتحاد على أنه قوة متماسكة يحسب لها. الا أن ذلك لا يعنى انه لا توجد خروقات. فاليونان مثلا لم تلتزم بالعقوبات الأوروبية على إيران إلا بعد أن حصلت على تعويضات نفطية من الاتحاد الأوروبى تخفف مضاعفات وقف الاستيراد بأسعار تشجيعية من إيران. كذلك فإن سلوفينيا ذهبت إلى حد التمرد على قرار مقاطعة بيلاروسيا لتناقض المقاطعة مع بعض مصالحها الاقتصادية.
●●●
من هنا السؤال: هل يستطيع الاتحاد الأوروبى مواجهة التحديات الكبرى فى أوروبا والشرق الأوسط من خلال الاعتماد فقط على سلاح العقوبات؟
فى مقدمة هذه التحديات عودة الرئيس بوتين إلى الكرملين رئيسا للاتحاد الروسى. فالرئيس بوتين عاد رغم المعارضة الأمريكية ــ الأوروبية ورغم اتهاماتهما له بالتزوير وسوء استغلال السلطة. وهو يجاهر بمعارضة الاستراتيجية العسكرية الأمريكية ويهدد بإقامة شبكة من الصواريخ الاستراتيجية موجهة إلى أوروبا للتصدى لشبكة الصواريخ الأمريكية التى أقيمت فى بولندا وتشيكيا حتى الآن. ثم ان أوروبا تعتمد بصورة أساسية على روسيا للحصول على حاجتها من الغاز والنفط. صحيح ان روسيا تحتاج إلى الزبون الأوروبى لتصريف انتاجها من الطاقة، ولكن الاتحاد الأوروبى لا يستطيع أن يعيش من دون هذه الطاقة. ولعل هذا ما يفسر التعامل الأوروبى الليّن مع الفيتو الروسى الذى أجهض محاولات إدانة النظام السورى أمام مجلس الأمن الدولى.
يتكامل هذا التحدى مع تحد آخر وهو قرار الولايات المتحدة تصفية قواعدها العسكرية فى الدول الأوروبية والتى لاتزال قائمة فيها منذ الحرب العالمية الثانية. فالدول الأوروبية لا تفتقر فقط إلى الامكانات العسكرية لملء الفراغ المترتب عن الانسحاب الأمريكى، ولكنها لا تملك حتى الارادة السياسية لذلك. فكيف ستتصرف فى ضوء ارتفاع حدة الحرب الباردة بين موسكو وواشنطن؟
ثم إن الولايات المتحدة قررت وأعلنت قرارها رسميا بالتوجه إلى آسيا عبر المحيط الباسيفيكى. أى انها تعطى التوجه الباسيفيكى الأولوية على التوجه الأطلسى الذى اعتمدته منذ الحرب العالمية الأولى. فالاهتمامات الأمريكية الجديدة هى فى الأسواق الآسيوية (إندونيسيا ــ الفلبين ــ فيتنام ــ كوريا والهند)، والهموم الامريكية هى فى هذه الأسواق أيضا (الصين واليابان).
●●●
وإذا كان الاتحاد الأوروبى يواجه تحديا شديدا نتيجة المتغيرات فى التوجه الأمريكى من الأطلسى إلى الباسيفكى، وإذا كان يواجه فى الوقت ذاته تحديات أخرى نتيجة التغيير فى التعامل الروسى مع «دول الجوار» فى أوروبا الشرقية ردا على توسع الاتحاد الأوروبى وحلف شمال الأطسى شرقا لاحتواء هذه الدول التى كانت حليفة للكرملين، فإن المتغيرات التى تعصف بالعالم العربى تشكل إضافة كبيرة إلى هذه التحديات.
فالاتحاد الأوروبى الذى لا يملك استراتيجية لمرحلة عودة بوتين، ولا لمرحلة ما بعد أوباما (؟)، يكتشف الآن أنه يفتقر إلى استراتيجية لمرحلة ما بعد «الربيع العربى» أيضا.
فقد فوجئ الاتحاد ــ كغيره من القوى الدولية الأخرى ــ بانفجار سلسلة المتغيرات فى العالم العربى. ذلك أن هذه الأحداث لم تقع نتيجة انقلابات عسكرية، ولم تطلقها أحزاب أو قوى محلية مرتبطة أو غير مرتبطة بالخارج، ولكنها وقعت ربما لأول مرة فى التاريخ نتيجة مبادرات أفراد جمعهم الشعور بالظلم والاستبداد، والتطلع نحو حياة حرة كريمة. ولقد أسفرت هذه الأحداث عن خسارة الاتحاد الأوروبى ــ ومرة أخرى كغيره من القوى الدولية ــ أصدقاء لم يجرؤ على التحسر عليهم، ولم يعرف بعد كيف يقيم صداقة مع الذين حلّوا محلهم. فالبوابة الكبيرة للدخول إلى العالم العربى الجديد لاتزال مقفلة فى وجه الاتحاد الأوروبى وهى بوابة حل القضية الفلسطينية حلا عادلا. ذلك أن الولايات المتحدة لاتزال تمسك بمفتاح الحل، وتعطل بالتحالف مع اسرائيل كل محاولة لصناعة مفتاح بديل.
●●●
لا شك فى أن المقاطعة والعقوبات الاقتصادية والمالية التى فرضها الاتحاد الأوروبى على النظام السورى لاقت ارتياحا لدى حركات الربيع العربى، ولكن رغم أن ذلك هو أكثر ما يمكن أن تقدمه دول الاتحاد أو أكثر ما تقدر على تقديمه، فإنه لا يحل المشكلة.
فالاتحاد الأوروبى يعانى من تداعيات الهجرة من دول جنوب المتوسط. ولقد جعل الرئيس نيكولا ساركوزى من هذه القضية ركنا أساسيا فى حملته من أجل تجديد رئاسته. ولكن لا دول جنوب المتوسط سوف تتوقف عن تصدير المهاجرين بغياب التنمية البشرية، ولا دول غرب أوروبا سوف تتوقف عن الحاجة إلى اليد العاملة الأجنبية اذا ارادت لاقتصادها أن يستمر فى النمو على عكس مجتمعاتها التى تشيخ.
من أجل ذلك لا يستطيع الاتحاد الأوروبى «بالمقاطعة والعقوبات» فقط أن يقيم علاقات أفضل سواء مع روسيا بوتين أو مع عالم الربيع العربى.
حتى الآن تعتمد دول الاتحاد فى توافقها على قرارات الحد الأدنى: العقوبات والمساعدات، غير أن الأولى أثبتت انها لا تخيف ظالما ولا تردع مستعبدا. أما الثانية فقد أثبتت أنها لا تسمن ولا تغنى من جوع.