قبل أيام كشف تحقيق استقصائى لوكالة أسوشيتد برس عن مدى توغل تدخل دول أجنبية فى التأثير على السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط عن طريق التقرب والتواصل بمختلف الطرق مع دونالد ترامب. وسهلت طبيعة ترامب وفريقه ذلك، كونه بالأساس غير سياسى وغير واشنطونى. وركز التقرير على دولتين هما المملكة السعودية والإمارات العربية المتحدة، وكيف استغل وليى العهد محمد بن سلمان ومحمد بن زايد رجلى أعمال أمريكيين لخدمة مصالحهما عند الإدارة الأمريكية الجديدة. وانتهى تقرير الوكالة الإخبارية الأمريكية العريقة بتأكيدها على إلغاء محمد بن سلمان كل العقود التى كانت ستمنح للأمريكى من أصل لبنانى جورج نادر ورجل الأعمال الجمهورى إليوت برودى كمكافأة على جهدهما وتواصلهما مع إدارة ترامب. إلا أن أسوشيتد برس أشارت إلى عدم تأثر العقود التى وقعاها مع حكومة أبوظبى وتبلغ قيمتها مئات الملايين، حيث إن العمل سارٍ فيها دون أى تغيير. وتؤكد الوكالة الأمريكية أن رجلى الأعمال سعيا لإقامة اتصالات مع مسئولين فى البيت الأبيض ومشرعين فى الكونجرس الأمريكى لدفع واشنطن إلى تبنى مواقف متشددة مناصرة لأبوظبى والرياض فيما يتعلق بالأزمة الخليجية المرتبطة بقطر.
***
ونشرت كذلك صحيفة نيويورك تايمز أن تحقيقيات روبرت مولر المتعلقة بالتدخل الروسى فى الانتخابات الأمريكية قد اتسعت لتضم أدوارا لعدة دول إضافة لروسيا مثل إسرائيل وأوكرانيا والسعودية وقطر والإمارات. ويعتقد بعض المحللين فى واشنطن أن دور ولى العهد الإماراتى محمد بن زايد أصبح محل اهتمام خاص من مولر لما كشف النقاب عن لعبه دورا كبيرا فى دعم الجهود الروسية لإقامة قنوات تواصل سرية مع فريق دونالد ترامب قبل تنصيبه رئيسا للولايات المتحدة فى العشرين من يناير 2017. ويذهب البعض إلى أن بن زايد ألغى أو أجل زيارة لواشنطن مخافة أن يطلب فريق التحقيق لقاءه أو لقاء كبار مستشاريه. وكان قد أعلن فى بداية العام أن قادة السعودية والإمارات وقطر سيزورون كل على حده البيت الأبيض للقاء الرئيس ترامب خلال الشهور الأربعة الأولى من هذا العام، ثم ذكر أن بن زايد يريد أن يكون لقاءه هو الأخير بين الثلاثة وليس الثانى كما كان مخططا من قبل، وبالفعل جاء محمد بن سلمان وجاء تميم بن حمد، ولم يقم بن زايد بزيارة واشنطن كما كان مخططا من قبل.
**
لمحمد بن زايد علاقة حميمة مع ترامب وفريقه، إذ كشفت واشنطن بوست أن بن زايد رتب اجتماعا سريا فى يناير قبل الماضى بين مؤسس شركة بلاك ووتر، السيد إيريك برنس (أخته بيتسى تعمل كوزيرة للتعليم فى إدارة ترامب) وبين مسئولين روس مقربين من رئيسها فلاديمير بوتين فى جزيرة سيشيل، وذلك لإقامة خط اتصال خلفى بين موسكو والرئيس الأمريكى الجديد. ويعرف برنس ترامب منذ عقود، وله معه روابط مالية وتجارية متشعبة، إضافة لتبرعه هو وعائلته بملايين الدولارات دعما لحملة ترامب الانتخابية. وبدأت خيوط هذه الترتيبات فى الظهور مع محاولة بن زايد المجىء سرا لمدينة نيويورك ليلتقى فى برج ترامب مع ثلاثة من مستشارى ترامب هم مايكل فلين وجاريد كوشنر وستيفن بانون للاتفاق على تفاصيل الاجتماع. وباءت محاولة بن زايد فى السفر السرى للولايات المتحدة بالفشل، وهو ما يمثل خرقا للبروتوكول، إذ لم تخطر الإمارات إدارة أوباما قبل الزيارة، على الرغم من أن المسئولين اكتشفوا ظهور اسم بن زايد فى أوراق شركات الطيران بالمصادفة. ولمن لا يعرف فإن بلاك ووتر التى أسسها إيريك برنس هى الشركة الأمنية التى اقترفت جرائم لا تحصى فى العراق من أهمها حادثة وقعت عام 2007 اتهم فيها حراس الشركة، وأدينوا فى وقت لاحق جنائيا بعدما قتلوا مدنيين فى أحد ميادين بغداد المزدحمة. بعد ذلك غير برنس اسم الشركة لتصبح «مجموعة الخدمات الحدودية» وليبرم عقدا مع حكومة الإمارات قيمته 529 مليون دولار وذلك لجلب مقاتلين أجانب (أغلبهم من كولومبيا وفنزويلا وجنوب إفريقيا) لتصبح قوة شبه عسكرية قادرة على تنفيذ عمليات عسكرية فى دول كاليمن وليبيا، إضافة لمهام سرية وحماية منشآت الإمارات الحيوية من الهجمات الإرهابية. ويهتم المحقق مولر بمعرفة تفاصيل زيارة ولقاءات محمد بن زايد ببرج ترامب. وفى سبيل ذلك تم توقيف مستشار بن زايد اللبنانى الأصل جورج نادر والتحقيق معه فى يناير الماضى، ولم تغلق صفحة التحقيقيات بعد.
***
وتسمح طبيعة واشنطن العاصمة الأمريكية للدبلوماسيين والأجانب باستثمارات سياسية واستخدام سلاح المال للتأثير على موقف نخب واشنطن من قضية خارجية إقليمية تهم هذه الدولة أم تلك، ولهم كذلك الحق فى الاغداق بالمال والرشاوى المقننة لتحقيق أهدافهم وهذا يعد قانونيا عن طريق شركات اللوبى المسجلة والتى تنشر تفاصيل أنشطتها. وعن طريق شرعنه ظاهرة اللوبى والعلاقات العامة، وسماح مبدأ الفصل بين السلطات بانتشار مراكز قوى مختلفة (مثل البيت الأبيض، والكونجرس، ومراكز الأبحاث ووسائل الإعلام وغيرها)، وأوجد ذلك بالتالى مساحات واسعة للتأثير على عملية صنع السياسة الخارجية المعقدة، حال فهم طبيعة العاصمة واشنطن وحدود التحرك داخلها. إلا أن هذا شىء وشيئا آخر أن تحاول التأثير فى اختيارات الناخب الأمريكى، أو أن تلعب دورا مشبوها فى الانتخابات وما بعدها. ولا تغفر المؤسسات الأمنية والاستخبارات الأمريكية محاولات الخارج اللعب والتأثير فى مفاصل العملية السياسية الأمريكية الداخلية متمثلا فى انتخاباتها الرئاسية، وإذا تأكدت السلطات الأمريكية من سعى ولى عهد الإمارات المباشر للحصول على نفوذ لدى البيت الأبيض مقابل تقديم دعم مالى لحملة ترامب الانتخابية خلال 2016، أو أن يكون هناك تنسيق بينه وبين الرئيس الروسى بوتين لدعم حملة ترامب، فقد لا يقف رد الفعل الأمريكى عند عدم قيام محمد بن زايد بزيارة لواشنطن.