منذ أكثر من سنة يحلق فى أجواء الشرق الأوسط البالون المسمى «صفقة القرن» بين إسرائيل والفلسطينيين. هذه الخطة هى خليط من خداع وتخبط، وأخيرا تغلب الخداع وتحت صيحات انتصار جرى عرض «المرحلة الأولى» من الصفقة ــ «سلام اقتصادى» برعاية مؤتمر اقتصادى فى البحرين. سلام اقتصادى، ثرثرة اقتصادية؟
السلام السياسى بين إسرائيل والفلسطينيين هو شرط أساسى لـ«سلام اقتصادى»: والأخير لا يمكن أن يحدث ولن يحدث من دون الأول. لقد جرى تجريب ذلك مرات عديدة، وفشل. الاتفاق الاقتصادى المؤقت على توحيد المكوس والضرائب بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية وُقِّع بعد مضى عام فقط على توقيع اتفاقات أوسلو، ولم يتحول منذ ذلك الحين إلى وثيقة سلام اقتصادى فعلى، لأن التسوية السياسية المؤقتة لهذه الاتفاقات لم تتحول إلى سلام حقيقى. البنك الدولى ومجموعة المانحين والمستثمرين قدموا خططا تفصيلية لتطوير زراعة فلسطينية متطورة فى مناطق المستوطنات التى أُخليت فى غزة، لكن فى المستنبتات الزجاجية المهجورة، تمركزت فورا كتائب «حماس».
ما هو التبرير الاقتصادى المطروح لضم المناطق إذا كان يكلف الاقتصاد عشرات مليارات الشيكلات؟
من التاريخ الصعب للعلاقات بين اليهود والعرب يُستنتج أن مصطلح «سلام اقتصادى» هو اختراع من دون مضمون، وهو ذريعة للتهرب من قرارات سياسية وقومية. لقد فهم بيل كلينتون ذلك جيدا، عندما كتب فى نهاية ولايته صيغة السلام المعروفة بالوثيقة المخصصة لترتيب العلاقات بين إسرائيل وفلسطين. البعد الاقتصادى فى «صيغة كلينتون» كان ثانويا، وباهتا ومقلصا مقارنة بالبعد القومى ــ الدينى.
لكن ترامب ثابت فى كرهه كل ما يمت بصلة إلى عائلة كلينتون. ولديه رأى صارم عن الفلسطينيين، عبر عنه أمام أسماع المقربين منه: هو لا يرى فيهم أمة تستحق دولة مستقلة. هو يرى أنهم مجموعة إثنية عربية ربما تستحق حكما ذاتيا مطورا. بناء على ذلك، فإن الهدف من سلامه الاقتصادى تسهيل هو القضاء على تطلعاتهم الوطنية نحو الاستقلال. فى الجهود التى يبذلها لعقد مؤتمر مستثمرين محتملين فى السلطة الفلسطينية، لا يريد ترامب شراء الفلسطينيين، بل شراء سكوتهم. ويريد أن يدفع (من أموال دول الخليج) فى مقابل قبولهم. وهو يقول إنه يتصرف هنا كرجل أعمال لديه خبرة، وكاقتصادى موثوق به.
لكن هذا ليس صحيحا. الاقتصاديون لا يعتقدون بأسبقية الاعتبار الاقتصادى وتقدمه فى سلوك الشعوب والحكومات والدول. الاقتصاد خاضع للسياسة، وللأيديولوجيا والسلطة والمشاعر الوطنية. والأدلة على ذلك نجدها بوفرة كيفما التفتنا. لو كان الاعتبار الاقتصادى يتقدم على غيره من الاعتبارات لما كانت نشبت حروب، ولما كانت انتشرت وجهات نظر عالمية متطرفة، ولما كان هناك جوع على وجه الأرض.
والدليل الراهن هو أن الأغلبية النسبية من الجمهور البريطانى صوتت فى الاستفتاء العام مع الخروج من الاتحاد الأوروبى على الرغم من الضرر الاقتصادى الذى لن يمس كل طبقة من طبقات المجتمع البريطانى. التدخل الروسى فى الحرب الأهلية فى سوريا لم يكن بالتأكيد بدافع اقتصادى: لقد كلف الاقتصاد الروسى ركودا وعقوبات وانخفاضا حادا فى مستوى المعيشة. إسقاط صدام حسين لا يمكن أن نعزوه إلى أسباب اقتصادية: لقد كلف دافع الضرائب الأمريكية عدة تريليونات من الدولارات. فنزويلا بلد غنى بالنفط ــ لكن الطغيان السياسى جلب لها كارثة.
إذا جرى تغليف قرار سياسى مركزى بذريعة اقتصادية، ففى أكثر الأحيان يكون هذا خطأ.. وسبق أن نبه كينز إلى أن الحكام يتأثرون ــ بسهولة ــ بهمس المشعوذين الاقتصاديين المتنكرين بصورة خبراء. فى حالة الرئيس ترامب، الهمس لا ضرورة له. فهو مشعوذ اقتصادى كبير بحد ذاته. يجب علينا أن نحذر من أن نصبح ضحية أخطائه.