ما يحدث فى تونس يفتح المجال لتجدد الجدل الدائم حول الصدام بين نصوص القانون والدستور من جهة، ومقتضيات السياسة وأحوال الناس ومعيشتهم من جهة أخرى.
للأسف لدينا فى وطننا العربى الكبير من لا يزال يتمسك بنصوص القانون والدستور فقط، وكأنها آيات قرآنية منزلة، لا تتأثر بالظروف والمتغيرات، أو يتمسك بشعارات سياسية جوفاء لتغطية انفراده بالسلطة.
الأصل أن الدساتير والقوانين ليست مجرد كلمات وتعبيرات ومواد ونصوص مجردة، بل هى ترجمة فعلية لأحوال الناس وظروفهم المختلفة ودرجة تعليمهم ورقيهم وتحضرهم وإيمانهم بهذه النصوص. وهناك من يذهب إلى القول إنه من دون توازن بين القوى المختلفة فى المجتمعات، فلن تصمد أى ديمقراطية أو تعددية وسيأكل الكبير الصغير.
زميلى محمد بصل، مدير تحرير جريدة الشروق، كتب على صفحته على الفيس يقول: الاستغراق فى تحليل الفعل السياسى من منظور قانونى شىء دمه ثقيل، وأحيانا «بيكون عبيط»، ولا يمكّن أى طرف من تغيير الأمر الواقع، بل ربما يؤدى فقط لتطويع ما تبقى من قواعد دستورية وقانونية لخدمة السياسة».
تقديرى أنه ما لم يتم ترجمة النصوص والدساتير والقوانين لخدمة عموم الناس أو غالبيتهم، فإنهم سوف يكفرون بهذه الدساتير، خصوصا إذا اكتشفوا أن من يطالبهم باحترام هذه الدساتير والقوانين، يفعلون ذلك فقط، كى يستمر فى الحكم.
٢٠٪ من المواطنين التونسيين أعطوا أصواتهم لحركة النهضة الإخوانية فى آخر انتخابات نيابية تونسية، ومثلها لأحزاب متحالفة معهم، مما جعلهم يشكلون حكومة يسيطرون عليها، وغالبية الشعب قبل ذلك فى إطار إيمانه بقواعد اللعبة الديمقراطية.
لكن الشرط الجوهرى لهذا القبول أن توفر لهؤلاء الذين انتخبوك أو قبلوا بوجودك، رغم معارضتهم لك، الحد الأدنى من الاستقرار والعيش الكريم.
سيقول البعض ولكن ذلك يتم فعلا من خلال الانتخابات الدورية، وبالتالى لا ينبغى القفز على هذه الآلية بالإجراءات الاستثنائية.
هذا كلام مثالى، لكنه لا يصمد أمام الواقع الذى تعيشه كثير من المجتمعات.
ومن أخطر ما نقع فيه نحن العرب أننا نقارن بين مجتمعاتنا ومجتمعات أوروبية أخرى قطعت شوطا طويلا فى التقدم والاستقرار والقبول بقواعد اللعبة الديمقراطية، من دون مراعاة الفوارق الكثيرة خصوصا الشروط الموضوعية.
عدد كبير من الأحزاب والقوى السياسية العربية لا يؤمن بفكرة الديمقراطية إلا إذا قادته هو وحده للحكم، أما إذا تم تغييره، فإنه ينقلب على هذه القواعد، ويرفض الاعتراف بالنتائج. هذا الأمر ليس قاصرا فقط على الأحزاب، بل انتقل إلى النقابات والأندية والمؤسسات، بل أعرف نموذجا فجًّا داخل اتحاد شاغلين فى مربع سكنى، وخناقة أخرى فى اتحاد ملاك عمارة واحدة!!
ما أريد قوله هو ضرورة أن يكون هناك بيئة حاضنة فى البلدان العربية لعملية الانتقال الديمقراطى، وإلا فإنها سوف تتعثر، ولا يكفى فقط أن يتشدق أحد الأطراف ويصر على ترديد عبارات وكلمات مثل الدستور والقانون والشرعية.
وحتى لا يفهمنى أحد بصورة خاطئة، فإننى أؤكد أن كل الدساتير والقوانين مهمة جدا، وأتمنى أن نصل إلى اليوم الذى يكون فيه هناك احترام شعبى عربى واسع النقاط لها، لكن من المهم ونحن نتمنى ذلك، أن نوقن بأنه يحتاج إلى ما هو أكثر من التمنى.
لا يعقل أن تصل حركة النهضة إلى السلطة وتصر على الاستمرار فيها، من دون أن تؤدى واجبها فى توفير الحياة الكريمة للشعب التونسى، أو توزع المخصصات المالية على أنصارها من موازنة الدولة، وتحاول أخونة البلد والتكويش على كل شىء، وحينما يتصدى لها الشعب تصرخ وتقول: «الحقوا هناك عدوان على الشرعية والدستور والقانون».
والسؤال أين كانت هذه الشرعية والدستور حينما كان الشعب يئن ويصرخ من الجوع ومن الانقسامات والخلافات بين القوى السياسية المختلفة؟!