استغربت كما استغرب الكثيرون من سرعة ومستوى ردود الفعل الخارجية على التطورات السياسية التى تشهدها مصر منذ٣٠ يونيو ٢٠١٣. فقد كانت المواقف العربية مفهومة بل ومتسقة منذ بداية الثورة المصرية فى حين حملت مواقف القوى الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية تصعيدا سريعا.
ليس فى هذا المقال مجال للحكم على طبيعة ما حدث فى ٣ يوليو ثم فى ١٤ أغسطس خلال فض اعتصامات الإخوان بالقوة. وإنما نسعى هنا إلى تفنيد المواقف الغربية من حيث الشكل والمضمون.
فقد تحفظت الولايات المتحدة الأمريكية بشكل شديد على ما حدث فى مصر وترددت الإدارة الأمريكية كثيرا فى اختيار كلمات لوصف الطريقة التى تم بها عزل محمد مرسى ثم فض الاعتصامات المؤيدة له، وشارك الولايات المتحدة فى ذلك الاتحاد الأوروبى. وانهال المبعوثون الخارجيون على القاهرة للوساطة بين المؤسسة العسكرية وجماعة الإخوان المسلمين المخلوعة عن الحكم. واتفقت الولايات المتحدة مع دول مثل المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا أنها قلقة مما يحدث ورافضة لعنف الجيش النظامى للدولة ضد المواطنين العزل لأنه يخالف قيم ومبادئ الديمقراطية واحترام الحريات التى طالما آمنت بها ودافعت عنها الولايات المتحدة وأوروبا الغربية على امتداد تاريخها. وكأننا كمصريين نعيش فى كوكب آخر، وكأننا لم نر كيف أن الوصفة الأمريكية للديمقراطية فى العالم العربى أتت بحكم إقصائى مستبد فى العراق يقمع حريات الرأى والتعبير ويرفض تداول السلطة. كأننا غير واعين بأن هذا الحكم الديمقراطى أتى على جثث أكثر من مائة ألف مواطن عراقى نهشتهم آلة حرب الجيش النظامى الأمريكى والبريطانى. وكأننا لا نعيش على نفس الكوكب الذى تعدت فيه فرنسا على حرية السيدات فى لبس النقاب فى الشوارع وعلى حرية الفتيات فى ارتداء الحجاب فى المدارس العامة وتدخلت عسكريا فى مالى لقمع تمرد إسلامى وصفته بالإرهابى فى حين رفض تدخلها هناك الإخوان المسلمون فى مصر. ثم جاءت مواقف الدول الأوروبية من استخدام القوة فى فض اعتصامى رابعة العدوية والنهضة لتزيد من الطينة بلة. فبعد أن شيطنت هذه القوى الغربية الإسلام كدين والمسلمين كشعوب بعد هجمات الحادى عشر من سبتمبر، وبعد أن ضيقت عليهم الخناق فى المجال العام فى أوروبا والولايات المتحدة، وبعد أن أطمأنت إلى تصدير متطرفى المسلمين من أوروبا والولايات المتحدة إلى البؤر الإرهابية فى الشرق الأوسط بدءا من أفغانستان والعراق واليمن والقرن الإفريقى، بعد ذلك كله تريد أن تتصالح فى مصر مع الإسلام السياسى فى نفس الوقت الذى تتفاوض فيه مع حركة طالبان لتكون شريكا فى حكم أفغانستان بعد أن أسقطت آلة الحرب الأمريكية حكم طالبان فيها منذ ١٢ عاما وأتت بنظام «ديمقراطى» ليس أقل فسادا من نظام المالكى فى العراق. فقد وافق الإخوان المسلمون أن تتحول مصر إلى وكيل عن قوى حلف الناتو فى التفاوض أو حتى المواجهة مع القوى الإسلامية التى تم تحويل الشرق الأوسط إلى منطقة لاحتوائها وتحويطها. فمصر بموقعها الجغرافى وبمركزها فى العلاقات الدولية بمنطقة الشرق الأوسط وما للإخوان من شبكة علاقات دولية عابرة للحدود كانت ستقوم بالدور الذى أظهرت اعتداءات الحادى عشر من سبتمبر 2001 أن المملكة العربية السعودية أضحت غير قادرة وحدها على القيام به فى المجال الإسلامى.
●●●
وأكثر ما يثير السخرية هو أن هذه الدول الغربية عقدت اجتماعا طارئا فى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبى بالإضافة إلى الاجتماعات الثنائية والزيارات المكوكية لدول الخليج وكأن مصر تحولت إلى دولة فاشلة تحتاج إلى من يأخذ لها القرار من الخارج قبل أن يمتد الخطر الذى تمثله إلى دول الجوار. أو لم يمثل تحول سيناء إلى بؤرة تنطلق منها العمليات الإرهابية ضد الجيشين المصرى والإسرائيلى على حد سواء خطرا على المنطقة؟ أم أرادت الولايات المتحدة وإسرائيل أن تكون سيناء مصر هى جنوب لبنان أى ورقة الضغط وذريعة التعدى العسكرى الإسرائيلى على سيادة الدولة؟
وكل ذلك تحت مسمى حماية قيم الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان فى التعامل مع جماعة الإخوان المسلمين. وأين كانت قيم الديمقراطية حين فازت حماس فى انتخابات عام ٢٠٠٦ ورفض الاتحاد الأوروبى والولايات المتحدة وجميع المنظمات الدولية الاعتراف بحكومة حماس بل وشاركوا فى حصار قطاع غزة وتركه عرضة لأهواء نظام مبارك فى فتح الأنفاق أو إغلاقها؟ ألم تبدأ حماس كفرع من فروع الإخوان المسلمين؟ أم هل يسعى الغرب إلى التكفير عن ذنب ٢٠٠٦ فى فلسطين من خلال مصر فى ٢٠١٣؟
وفى مصر، اختارت السلطات الانتقالية تبنى خطاب الحرب على الإرهاب لكى تحرج الغرب. ولكن ماذا عن المصريين المسلمين من النخبة والشعب الذين أمضوا عقدا من الزمان يشجبون سطحية الخطاب الأمريكى عن الحرب على الإرهاب ويشجبون عنصريته وآثاره السلبية التى أدت إلى استمرار النظم الاستبدادية بحجة أن البديل هو النظم الإسلامية الإرهابية؟ ماذا عن الإسلاميين الذين زادهم هذا الخطاب تطرفا؟
●●●
ليس الهدف من هذا المقال هو تكريس نظرية المؤامرة، فالدول تحركها المصالح وليس المؤامرات. لكن هدف المقال هو شجب التعامل المتعالى مع المصريين على اعتبار جهلهم بحقيقة خطابى الديمقراطية والحرب على الإرهاب أيا كان من يستخدمونه. إن هذا النوع من الخطاب مرفوض فى عصر أصبحت فيه ملفات المخابرات الأمريكية والأوروبية وحتى المصرية يتم تداولها عبر الإنترنت. لقد كتبت أستاذتى رباب المهدى فى نفس هذه الصفحة منذ أكثر من عام مقالا بعنوان «لن نكون وقود ديكتاتوريتكم» الذى وجهته لبقايا نظام مبارك، والظرف الحالى يستدعى أن نقول لكل من يهمه الأمر: لن نكون ساحة خلفية لدفن مخلفات حربكم على الإرهاب.
مدرس العلوم السياسية بجامعة القاهرة