عندما كان محمود درويش يلقى الجزء الأخير من «جداريته»، ويرن صوته معلنا: «هذا البحر لى. هذا الهواء الرطب لى. هذا الرصيف وما عليه (...) جدار البيت لى. (...) واسمى، وإن أخطأت اسمى على التابوت، لى»، لم يكن بالطبع يتحدث عن حب التملك والرغبة فى الشراء، ولا عن الاستثمارات العقارية التى تبدو وكأنها النشاط الاقتصادى الأهم فى البلاد، بل هى قصيدة استثنائية عن الموت والحياة، تلخص تجربة شخصية بمنتهى الرهافة والعمق. لكن ربما بمحض المصادفة تداعت هذه الأبيات إلى ذهنى وأنا أطالع إعلانات الصحف، وصور الساحل الشمالى... والبحر الممتد والهواء الرطب، ثم الأسعار المتصاعدة ونظام الأقساط، فظلت تتردد على أذنى لفظة «لى» وأتفكر معناها.
•••
توقفت قليلا عند الرغبة فى التملك وحمى الشراء وأسبابهما النفسية. ثم وجدت الإجابة بشكل غير مباشر فى كلام محمود درويش أيضا، رغم أنه لم يكن يقصد ذلك عندما قال: « أطل كشرفة بيت على ما أريد»... لا أسعى لتحويل أبيات شاعر رائع نحو أهداف ومقاصد عقارية، فهو عبث لا يليق بقامة مثله ولا بحبى الشديد لأعماله. فقط على سبيل المشاغبة ومن باب العشم.
بالفعل عندما يشترى شخص بيتا فهو يرغب فى أن يطل على ما يريد، يسعى إلى نوع من الحماية والاطمئنان، فهو لن ينام فى الشارع يوما، ولن يعجز عن دفع الإيجار لظرف طارئ، فقد وجد منزلا يؤويه وجدارا يختبئ خلفه ونافذة أو شرفة يطل منهما على الآخرين عندما يريد الاتصال بالعالم الخارجى. هذه هى ببساطة فلسفة البيت «المِلك»، كما نقول بالعامية. حماية من غدر الزمان، على اعتبار أن الحجر أبقى من البشر! خاصة أن البيوت من السلع المعمرة أى أنها ليست ساندوتش فول أو هامبورجر ستفرغ قيمته فور أكله، كما أن أسعار العقار فى مصر صارت مقاربة أحيانا لمثيلاتها فى الريفيرا الفرنسية أو المنتجعات الإسبانية، رغم الفارق.
•••
البيت أيضا هو استثمار ملموس، ليس شيئا مجردا كمضاربات بورصة الأوراق المالية إلى ما غير ذلك. لذا وجد المتخصصون فى العديد من الدول بأوروبا وأمريكا وكندا أن حوالى 80% من المواطنين تحت خمسين سنة يرغبون فى شراء سكن خاص، حتى لو أثقل بعضهم بالأقساط لمدة عشرين سنة، فالعينات التى أجريت عليها الدراسات المختلفة كانت غالبا تشعر بالأمان والراحة النفسية لوجود بيت يرجعون إليه ويفرشونه أو يطلون جدرانه على ذوقهم، ليشعروا بذاتهم وفرديتهم بمجرد إضفاء لمساتهم الخاصة على المكان ويصبح واجهة لهم.. ثم يبحثون ربما بعدها عن واجهات أخرى.
لأن حب التملك لا يتوقف عادة عند شراء السكن والسكينة، بل فى الأغلب الأعم يقول البشر: هل من مزيد؟! فالرغبة فى أن نشير إلى شىء أو عدة أشياء ونقول إنها «لنا» هى جزء من الطبيعة الإنسانية. ويكفى الاستماع إلى جدل الأطفال حين يلعبون لنتأكد من ذلك.. يتعالى الصياح «هذه اللعبة لى» أو «دى بتاعتى» لنتعرف على وجه من وجوه البشرية، فالملكية مرتبطة بالرغبة فى السيطرة أو التحكم فى مقادير الأمور، وبالتالى الشعور بالقوة: أنا أمتلك البيت أو اللعبة، لذا أنا من سيضع القواعد هنا!! هكذا ببساطة، فنحن أمام مزيج من الرغبة والغريزة.
•••
وفى مجتمعاتنا الحالية، الشراء يتحول إلى متعة قد تعوضنا عن أشياء أخرى كثيرة نفتقدها. نشعر بالألم أو الاكتئاب فنتوجه صوب المحال والمراكز التجارية لنشترى سلعة جديدة، قد يفوق ثمنها أحيانا طاقتنا المادية.. تشترى المرأة فستانا لتنسى صلف الزوج أو تنتقم من بخله وتقتيره. تصالح نفسها بعد قصة حب فاشلة بقرط ذهبى، وتجد فى «بوليميا الشراء» أو الاستهلاك الشره دواء مسكنا للعديد من الإحباطات، وكلما زادت الضغوطات زادت المشتريات، فى مساحة لإثبات الذات: أنا ألبس ثوبا جديدا، إذا لا أزال قادرة على لفت الأنظار. أنا أشترى بيتا، إذا أنا موجودة، وسأطل كشرفة بيت على ما أريد