تحدٍ كبير أن يتصدى فيلم «السيد أزنافور» (Monsieur Aznavour) لحياة أسطورة الغناء، شارل أزنافور، الذى توفى عام 2018 عن عمر يناهز 94 عامًا، تاركًا وراءه أكثر من 1200 أغنية بسبع لغات و100 مليون أسطوانة و60 فيلمًا طويلًا. ولد الفنان فى عشرينيات القرن الماضى من أبوين أرمنيين هربا من الحرب والإبادة إلى اليونان ثم إلى فرنسا فى انتظار الحصول على تأشيرة دخول للولايات المتحدة الأمريكية، حينها رزقا بشارل، وهما فى باريس وقررا أن يستقرا هناك حيث أقام الأب مطعمًا بسيطًا كان يغنى فيه، وبالكاد يكفى احتياجات أسرته الصغيرة.
ورث شارل عن عائلته حب الموسيقى والمسرح، وهو ما نراه بالتفصيل فى الفيلم الذى كتبه وأخرجه فنانان متعددا المواهب وهما مهدى إيدير وفابيان مارسو الذى يُعرف بصاحب الجسم المريض لعلة أصابته. وقد اختارهما لهذه المهمة أزنافور نفسه لصداقة ربطتهما به رغم فارق السن، ربما بسبب ظروف النشأة فى أحياء فقيرة أو لكتابتهما الشعر واهتماماتهما المختلفة فى مجالات الإخراج والكتابة والغناء خاصة الراب والهيب هوب.
نجح هذان الأخيران فى سرد الكثير من تفاصيل مسيرة غنية وشخصية مركبة، مع احترام تسلسل الأحداث والترتيب الزمنى، إلا أنهما اضطرا إلى الجرى بنا سريعا بعد حوالى ساعة من الفيلم لكى يتمكنا من تغطية أكبر قدر ممكن من الوقائع، ومع ذلك لم يتعرضا لفترة النهاية وتقدمه فى السن، بل ركزا على صعوده وقصة نجاحه.
شاهدنا كيف كان أهله يساعدون اليهود الفارين من اضطهاد النازى خلال الحرب العالمية الثانية واحتلال الألمان لفرنسا، ثم تابعنا بداياته هو وأخته عايدة التى كانت تمتلك صوتًا جميلًا وكيف نسج علاقة صداقة مع بيير روش وكون معه ثنائيًا استمر عدة سنوات.
وفى الأربعينيات تعرف على إيديت بياف، أيقونة الغناء الفرنسية، ولازمها كظلها لمدة سبع سنوات، كان خلالها يعمل سائقًا ومساعدًا لها أحيانًا ويكتب كلمات بعض الأعمال ويغنى على المسرح مع رفيقه قبل ظهورها ويعرف كل عشاقها، إلى أن قرر التمرد والخروج من عباءتها لكن بعد شرب أصول المهنة. وهى التى نصحته بأن يجرى عملية تجميل فى أنفه بما أنه يؤدى أغنيات رومانسية ودفعت تكاليفها، فقد ربطتهما صداقة قوية، لأنهما تربيا وتعلما فى «مدرسة الشارع».
مثلها وضع فنه قبل كل شىء، فنجده يردد فى الفيلم «إذا لزم الأمر فسأترك الجميع خلفى»، لذا انفصل عن شريكه الفنى وعن زوجته الأولى بعد أن أنجب منها بنتًا، وستتكرر خلال الفيلم على لسان أبطال مختلفين فكرة أنه شخص من الصعب إرضاؤه أو أنه «لا يكتفى أبدًا». وفى مواضع أخرى نفهم ضمنيًا أنه لم يكن أبًا مثاليًا لأول طفلين، لكنه حاول أن يتدارك أخطاءه فى زيجته الثالثة والأخيرة من عارضة الأزياء السويدية التى ظلت إلى جواره حتى وفاته.
• • •
حاول المخرجان عدم تقديس شخصية أزنافور، بل بذلا مجهودا لإبراز مناطق مجهولة فى حياته والتعرض لنقاط ضعفه وتناقضاته، وذلك بموافقة ابنه وابنته، ميشا وكاتيا، اللذان وفرا لفريق العمل كل المعلومات اللازمة. لذا كان النجاح حليفهما، فقد حقق الفيلم إيرادات جيدة وهو مرشح لعدة جوائز سيزار بما فى ذلك أفضل ممثل، وسيتم إعلان النتيجة يوم 28 فبراير الحالى.
بالضرورة يرجع جزء من نجاح الفيلم إلى تناوله لشخصية شهيرة يرغب الناس فى اكتشاف ما يجهلونه عنها. وهنا يجدر بنا الإشارة إلى الحماسة الشديدة التى قوبلت بها أفلام السيرة الذاتية على مدى العشرين عامًا الأخيرة، وتشهد على ذلك قائمة الحاصلين على جوائز الأوسكار والسيزار خلال تلك الفترة والاهتمام الكبير بهذه النوعية من الأعمال سواء كانت الشخصية التى تتعرض لها سياسية أو فنية، إذ شهدنا أفلامًا عن إديت بياف وكالاس وفريدا كاهلو وعيدى أمين دادا وأوبانهايمر وجونى هاليداى وفان جوخ وكوكو شانيل ونينا سيمون وإلفيس بريسلى... وكأننا نسعى لتقييم ورواية أحداث قرن فات من خلال أبطاله، وبالطبع أيضا أيقن المنتجون أن الجمهور بحاجة إلى قصص إصرار ونجاح تعطيه أملًا فى غد أفضل.
نرى فى مثل هذه الأفلام النجوم وقد تعرضوا للمشقة والتعب والإحباط، وفى النهاية تمكنوا من الوصول إلى غايتهم وتخليد ذكراهم. وفى حالة تناول حياة المغنين والمغنيات تصير فرص نجاح الفيلم أكبر لأن أعمالهم وحدها تثير فينا الشجن وتؤجج الحنين كما حدث مع «السيد أزنافور» الذى يمتلىء بأغنيات رائعة نحفظها عن ظهر قلب، وقد وضعنا المؤلفان فى كواليس صُنعها وجعلانا نفهم ارتباطها بمراحل حياة الفنان.
• • •
قصة صعود أزنافور هى ما جذب أيضًا الممثل طاهر رحيم لتجسيد الدور، بعد تردد كاد أن يثنيه عن التورط فى هذه المغامرة. خاف عندما عُرض عليه الأمر، لكنه استمد إصراره من عملاق الأغنية، وقرر أن يجازف بعدما اكتشف النقاط المشتركة بينهما، فهو فرنسى من أصل جزائرى، ينتمى لعائلة فقيرة من المهاجرين، وشكله الخارجى لم يكن يؤهله بالضرورة للدخول إلى عالم الفن لكنه نجح وأثبت ذاته، كما أنه يحب الغناء والسفر حول العالم والتمرد على الحدود والقوالب.
التقى الممثل بعائلة المغنى الأسطورة ودرس حركاته وإيماءاته وذاكر أفلامه حتى شرائط الفيديو الخاصة التى كان يهوى تسجيلها، وبعد أن صار لديه حصيلة معتبرة من المعلومات توجه إلى طبيبه النفسى لكى يتعمق أكثر فى الشخصية ويكشف خباياها: أزنافور على المسرح وفى الكواليس، أزنافور الأب، أزنافور خلال لقاءات التليفزيون.
قرر طاهر رحيم أن يدرب صوته بشكل منتظم كى يصل إلى طبقات صوت تشبه أزنافور ويؤدى أغانى الفيلم بالكامل بدلًا من أن يعتمد على تقنية «البلاى باك» التى قد تقلل من مصداقيته أمام الجمهور. ثم لجأ فريق العمل إلى المكساج لدمج الصوتين فى أحيان كثيرة حتى لا نلاحظ الفرق. مجهود هائل جعله يقترب من أزنافور، خاصة مع إضافة الملابس والإضاءة والإكسسوار، ولكن مع كل هذا ظل شئ ناقص وهى الهالة الخاصة بأحد أعظم نجوم الأغنية.. السر الذى يجعلك تنسى قصر قامته وصوته الأجش وتقدمه فى العمر وهو يقف على المسرح، فلا تفكر سوى فى أدائه والمشاعر التى تصلك مع كل كلمة.