لم تعد الحرب الإلكترونية نسجا من الخيال.
إن التجسس الإلكترونى والتخريب الإلكترونى والتضليل الإلكترونى يمارَس على نطاق واسع منذ سنوات. وهو فى حال تطور واتساع دائمين. وكان آخر مسرح لهذه الحرب المنشآت النووية الإيرانية. فقد استهدفت جرثومة إلكترونية أجهزة الكمبيوتر مما أدى إلى تعطيل 45 ألف جهاز يقع 60 بالمائة منها داخل المنشآت النووية الإيرانية، خاصة تلك التى تعمل فى انتاج المياه الخفيفة فى بوشهر.
وكأى عمل إرهابى واسع النطاق، لم تعلن أى جهة مسئوليتها عن هذه «القذيفة الإلكترونية». غير أن اسم الجرثومة ــ القذيفة يحمل توقيع أصحابها. فالاسم «ستاك ــ نات» يشتق من ميرتوس وهو أحد ألقاب الملكة إيستر التى كانت واحدة من الشخصيات البارزة فى التاريخ التوراتى ــ اليهودى. لم تنفِ إسرائيل التهمة، ولم تؤكدها. إلا أن العالم كله أدرك أنها هى التى أطلقت تلك الجرثومة فى محاولة منها لشل القدرة الإيرانية على إنتاج سلاح نووى.
وفيما تعمل إيران على معالجة أجهزتها الإلكترونية من التداعيات المدمرة لهذه الجرثومة الإسرائيلية، فإن السؤال الذى يفرض نفسه هو: ماذا إذا أطلقت إسرائيل قذائف جرثومية إلكترونية جديدة ضد الأجهزة الإلكترونية التى تدير منشآت حيوية فى الدول العربية مثل المطارات والجامعات والدوائر الحكومية والأمنية وسواها؟.
هل هناك استعدادات وقائية؟.
لقد أنشأت إسرائيل وحدة فى جهاز الموساد (جهاز التجسس) أطلقت عليها اسم «وحدة 8200». ولا يقتصر عمل هذه الوحدة على التجسس الإلكترونى فقط، ولكنه يتعدى ذلك إلى إنتاج الآليات للهجوم الإلكترونى عندما تدعو الحاجة.
وقد دعت الحاجة فعلا إلى استخدام هذه الآليات ضد إيران، اعتقادا من إسرائيل بأن امتلاك إيران للسلاح النووى يعرّض أمنها الاستراتيجى للخطر. وقد نجحت فى ذلك، ولو نجاحا جزئيا.
مع ذلك، لم تكن العملية الإسرائيلية ضد إيران الأولى من نوعها فى عالمنا الإلكترونى الحديث. فقد سبق للاتحاد الروسى أن شن حربا إلكترونية ضد استونيا فى عام 2007. وأصابت وزاراتها ومصارفها ودوائر الأمن فيها بالشلل.
ثم شنت هذه الحرب على جورجيا فى عام 2008، وتمكن الروس من التشويش على الاتصالات بين القيادة العسكرية والوحدات التى كانت تقاتل القوات الروسية. كما تمكنوا من تضليل الطيران الجورجى، الأمر الذى أدى إلى الهزيمة التى لحقت بها رغم كل الدعم والمساعدة التى كانت تتلقاها جورجيا من الولايات المتحدة وإسرائيل وحلف شمال الأطلسى.
وفى مايو من عام 2007، تمكن الصينيون من اختراق جهاز المعلومات الإلكترونى الخاص فى مكتب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل. كما تمكنوا من اختراق أجهزة عدد من الوزارات الألمانية بما فيها وزارة الصناعة ووزارة الدفاع!.
تمكن الصينيون كذلك، حسب المعلومات الرسمية الألمانية من ضخ 160 ميجابايت من المعلومات السرية قبل أن ينكشف أمرهم. وقد اتهمت ألمانيا الجيش الصينى بارتكاب تلك العمليات.
حتى الولايات المتحدة التى تعتبر رائدة فى الدفاع عن شبكة معلوماتها السرية، تعترف وزارة خارجيتها بأنها تتعرض لمحاولة الاختراق بمعدل مليونى مرة فى اليوم الواحد. وأنه فى كل جزء من الثانية يتعرض أحد المواقع الإلكترونية الرسمية إلى محاولة الاختراق.
ومن خلال السلاح الإلكترونى يستطيع «العدو» أن يخرب شبكة الاتصالات العسكرية والسياسية وأن يشل الدورة الاقتصادية المالية والتجارية والصناعية وأن يعطل شبكة المواصلات.. الخ.
كل ذلك من دون أن يطلق رصاصة واحدة. لقد أعدت إسرائيل نفسها لهذه الحرب كما تشير إلى ذلك العملية التى استهدفت إيران. فهل أعدت الدول العربية نفسها أيضا للدفاع.. وللهجوم عندما تقتضى الضرورة؟.
ففى عالم يزداد اعتمادا مدنيا وعسكريا على الشبكة الإلكترونية، فإن استهداف الشبكات الوطنية الداخلية يلحق بالدولة المستهدفة خسائر كارثية ويدفعها إلى الشلل والانهيار بسرعة ومن دون قتال.
من أجل ذلك، تداعت الدول الإلكترونية الكبرى فى العالم وهى الولايات المتحدة والصين وروسيا والاتحاد الأوروبى إلى البحث فى إعداد معاهدة دولية جديدة تحظر استخدام السلاح الإلكترونى تكون مماثلة فى جوهرها لمعاهدة حظر استخدام السلاح النووى، لما يمكن أن يلحق هذا «السلاح النظيف» من خراب ودمار وشلل بالحياة المدنية العامة.
غير أن إسرائيل التى تنتج السلاح النووى وترفض الانضمام إلى معاهدة حظر استخدامه، لن يردعها عن استخدام السلاح الإلكترونى ضد الدول العربية معاهدة دولية جديدة، الأمر الذى يشكل حافزا إضافيا لتطوير جهاز المناعة الإلكترونى العربى.
ونظرا لعدم ثقة الدول المعنية ذاتها باحترام معاهدة الحظر حتى إذا تم التوصل إليها فعلا، فإنها تعمل على تحصين مؤسساتها من جهة، وعلى تجهيز وسائل هجومها المعاكس من جهة ثانية. ومرة ثانية يفرض السؤال التالى نفسه: ماذا تفعل الدول العربية؟
لقد تبنت إدارة الرئيس باراك أوباما على سبيل المثال إجراءات دفاعية لمواجهة أى حرب إلكترونية تتعرض لها. وبموجب هذه الإجراءات يتولى الرئيس نفسه إعطاء الإذن بالحرب، هجومية كانت أو دفاعية. على أن تتولى التنفيذ وزارة الأمن الداخلى. وقد صيغت الإجراءات بحيث تؤمن ردا سريعا للهجوم الإلكترونى مع مراعاة المحافظة على الحريات المدنية من أى انتهاك تتعرض له من خلال رد الأجهزة العسكرية.
ومن المعروف أن قلب الشبكة الإلكترونية الأمريكية موجود فى البنتاجون (وزارة الدفاع) فيما تنتشر الأهداف الأساسية للحرب الإلكترونية فى المواقع المدنية سواء داخل الدوائر الحكومية أو المؤسسات الخاصة. وسيتولى المسئولية الأولية جهاز استحدث أخيرا مهمته مواجهة «الحرب الإلكترونية» والاستعداد لها برئاسة روبرت بتلر أحد نواب وزير الدفاع.
ومن المتوقع أن تعد وزارة الدفاع الأمريكية فى وقت لاحق من هذا العام «استراتيجية متكاملة لمواجهة الحرب الإلكترونية تحدد مهمات المؤسسات المختلفة بدءا بالبيت الأبيض. حتى إن الكونجرس مدعو الآن لوضع تشريعات جديدة تتماشى مع متطلبات مواجهة الحرب الإلكترونية، وفى مقدمتها فرض مراقبة إلكترونية استباقا للتعرض للحرب المحتملة.
وكان وزير الدفاع الأمريكى روبرت جيتس قد طرح أمام وزراء دفاع حلف شمال الأطلسى مشروعا لوضع استراتيجية لدول الحلف تمكنها من مواجهة خطر تعرضها لحرب إلكترونية.
من خلال ذلك يبدو أن مثل هذه الحرب (التى بدأت فعلا ولو على نطاق محدود وعلى عدد من الجبهات الساخنة الجيورجية والأستونية، والجبهات الباردة ــ ألمانيا والولايات المتحدة ــ وأخيرا على الجبهة الإيرانية) قدر محسوم. فهل تستعد الدول العربية لها وهى تعرف جيدا ان إسرائيل تملك القدرات الإلكترونية التدميرية؟.