قرّرت دفعة ثانوية عامة سنة ١٩٧٤ أن تحتفل بمرور نصف قرن على تخرّجها، وقبل أن أسترسل فى الحكى أعتذر لصديقتى العزيزة وزميلة دفعتى عن ذِكر هذه المعلومة التى تكشف حقيقة أعمارنا فالأسماء مجهّلة. لطيف جدًا أن تستطيع واحدة من نفس الدفعة تجميع حوالى أربعين سيدة من قارات مختلفة فى مجموعة على الواتساب. حدث هذا من عدّة سنوات واستمّر التواصل بيننا والدردشة فى كل الموضوعات ما عدا السياسة والدين، وهذا تقليد جيد جدًا لأنه أغلق الباب أمام الاستقطاب الذى نعانى منه. وبالتالى لا بأس أن نتكلّم عن ذكريات المدرسة والمدرّسين، ونستعرض قدرات بعضنا الاستثنائية فى الطبخ والمشغولات اليدوية، ونتبادل أخبار الأولاد والأحفاد والدايت والأمراض والأطباء والمسلسلات والنكات. فى زحام الحياة نسينا أن هذا العام يوافق خمسين عامًا بالتمام والكمال على حصولنا على شهادة الثانوية العامة، ومرة أخرى أعتذر لصديقتى العزيزة عن ذِكر سنة التخرّج لكن ما باليد حيلة. أقول نسينا حتى قامت واحدة من بيننا مشكورة بتذكيرنا بأن هذا الحدث لا ينبغى أن يمّر مرور الكرام. تحمّسنا جميعًا للفكرة، فخمسون عامًا من عمر الإنسان ليسوا شيئا بسيطًا، ويا عالِم. المهم شرعنا فى التخطيط للاحتفال بمنتهى الهمّة والنشاط.
• • •
بدأنا أول ما بدأنا بالتفكير فى موعد الاحتفال، وأخذ منّا الاتفاق على يوم يناسب الأغلبية وقتًا طويلًا لكنه أقل بكثير من الوقت الذى استغرقه اختيارنا لأطباق الطعام، وسآتى لهذه النقطة فى حينها. اخترنا يومًا ما فى شهر أكتوبر وانتقلنا للتشاور فى مكان اللقاء. كان هناك اقتراح بقضاء نهاية الأسبوع فى أحد فنادق الفيوم، وهو اقتراح جميل لولا أن معظمنا كجدّات لدينا التزامات عائلية تجاه الأحفاد خلال أيام العطلة الأسبوعية. استبعدنا إذن فكرة السفر للفيوم، فظهر اقتراح آخر للقيام بجولة نيلية لعدّة ساعات، وهى أيضًا فكرة جميلة لكن الطلوع إلى الباخرة والنزول منها لم يكن يبدو مريحًا فأغلبنا توجد لديه ظروف صحيّة خاصة، طبعًا مع التسليم بوجود تفاوتات شخصية. انتهى الأمر إلى تكليف إحدانا بالاتفاق مع أحد النوادى التى تشترك فيها- من أجل استضافة احتفالنا بعيدنا الذهبي. كان هذا الاقتراح يناسبنا جميعًا: الرياضيات منّا وغير الرياضيات، كما أن أسعار النوادى بشكلٍ عام تبدو معقولة بالمقارنة بأسعار المطاعم الأخرى. من هنا بدأَت مداولات اختيار أطباق الطعام، ويالها من مداولات. كان التنسيق وتجميع الاختيارات أمرًا ضروريًا لأنه ليس معقولًا أن نتوّقع أن يكون النادى جاهزًا لتلبية طلبات هذا العدد الكبير.
• • •
بدأَت مؤسِسّة المجموعة بنفسها قائلة إنها ستطلب «سمك بورتوفينو»، وتلتها واحدة وثانية وثالثة ورابعة.. جميعهن طلبن نفس الطلب «سمك بورتوفينو». على المستوى الشخصى وقعتُ فى حيص بيص فلم أكن أعرف بالضبط ما هو السمك البورتوفينو، والحقيقة إننى شعرتُ بالخجل لأن كل هذا العدد من صديقات العُمر يعرفن ما هو السمك البورتوفينو أما أنا فلا. راح من ذهنى تمامًا أن أستعمل جوجل لا أدرى كيف رغم إننى ألجأ له طوال اليوم، لكن هذا ما حدث. وبالتالى رحت أسأل نفسى ترى هل أخذَتنى السياسة بعيدًا بعيدًا حتى إننى لم أعُد أعرف ما هو السمك البورتوفينو؟ أم إننى وقد قللتُ وأسرتى من خروجاتنا الأسبوعية لأسباب اقتصادية صرفة- لم أعد مطّلعة على قوائم الطعام الجديدة؟ أم أن تعليمى كان تعليمًا مضروبًا مقارنةً بخرّيجات دفعتى من نفس المدرسة؟ لم تكن عندى إجابات هذه الأسئلة، ولم تطاوعنى كرامتى أن أسأل صديقاتى فى المجموعة ما هى حكاية السمك البورتوفينو.. فأخذتها من قصيرها كما يقولون وطلبت سمكًا عاديًا، لا بورتوفينو ولا يحزنون. لكن بعد أن زاد الإقبال على البورتوفينو وتجاوزَ طلبه ١٥ طلبًا، وجدَت أخيرًا إحدى عضوات مجموعتنا فى نفسها الشجاعة لتسأل السؤال الذى جنّنى: يا بنات -هكذا ننادى بعضنا البعض- هو إيه السمك البورتوفينو ده، أنا خايفة نختاره ونتدبس!!! وعلى الفور قامت منشئة المجموعة بالرّد: ده سمك بالجمبرى، واسمه منسوب لمدينة إيطالية مشهورة بمأكولاتها البحرية. شعرتُ بالغيظ، لأننى لو كنت أعلم بالأمر وما فيه لانضممتُ من أول لحظة إلى قافلة البورتوفينو لكننى خشيت المقامرة، ولم تطاوعنى كرامتى ــ قاتلها الله ــ على أن أغيّر اختيارى بعد أن عرفت ما هو البورتوفينو حتى يتصوّر الجميع إننى اخترتُ عن عمد السمك المشوى العادى. تذكَرتُ مشهدًا طريفًا من فيلم النمر الأسود لأحمد زكى عندما ركب الباخرة لأول مرّة فى حياته متجّهًا إلى ألمانيا، ووقف محتارًا أمام مائدة الطعام لا يدرى ماذا يأكل منها، فكان كلما أعجبه طبق وسأل عنه قالوا له إن به لحم خنزير، وأخيرًا قرّر أن يريح نفسه ويأكل مكرونة. وهذا بالضبط ما حدث معى، أكلت ما أعرف تجنبًا لما لا أعرف. تحوّل غيظى إلى سخرية، لكنى انتويت أن أتجاوز الموقف وها أنذا أفضفض.
• • •
بعد أخذ وردّ حول المقبّلات وأنواع الحلوى اكتمّلت قوائم الطعام، وهذه العملية أخذَت ما لا يقّل عن شهر كامل سافر خلاله الناس إلى المصيف وعادوا منه ومجموعتنا مازالت تفاضل بين الكِشك والبابا غنوج، وبين الكريم كراميل والآيس كريم. وإذ فجأة خرجَت علينا إحدى الصديقات بفكرة مدهشة. كانت مدرستنا غير مختلطة، لكن القسم العلمى بها كان يستخدم المعامل الموجودة فى إحدى مدارس البنين لأنها كانت أفضل. وهكذا وبينما نحن نفكّر فى كيف نجعل عيدنا الخمسينى عيدًا مختلفًا فى كل شىء.. اقترحَت إحدانا دعوة طلاب مدرسة البنين إياها ليشاركونا الاحتفال. فعلًا؟ تخيّلت أننا نتصّل برجال كبّارة تغيّرت ملامحهم وأفكارهم وطباعهم وصاروا جدودًا من سنين لندعوهم إلى وليمة البورتوفينو فضحكت جدًا. دع عنك إننا لا نعرف أصلًا لطلاب أيام زمان طريق جُرّة فاللقاء نفسه لو أنه تمّ لحمل فى طياته بذور طرافته كما تحمل الرأسمالية بذور فنائها. مجموعة من الأغراب يجلسون حول مائدة طعام ويبدأون الحديث من النقطة صفر ثم يتصافحون ويذهب كل فى طريق. أقنعنا صديقتنا بالتخلّى عن فكرتها. لكن سرعان ما ظهرَت فكرة أخرى تدعونا لنلبس جميعًا ثيابًا صفراء تشبّهًا ببلوزة المدرسة، وهذه الفكرة أيضًا لم تلق ترحيبًا واسعًا، حتى إذا مرّت الأيام والتقينا صنَعنا بألواننا المختلفة المبهجة لوحةً أشبه ما تكون بلون قوس قزح.
• • •
خطفنا من الزمن بضع ساعات حلوة كنّا نحتاج إليها، والتقطنا صورًا ثلاثية ورباعية وجماعية كتلك الصور التى كنّا نأخذها فى المدرسة وبنفس الترتيب المعتاد: القصيرة قدّام والطويلة ورا.