عندما ينتمى الإنسان إلى جنوب لبنان - مواقع عربية - بوابة الشروق
الجمعة 22 نوفمبر 2024 7:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

عندما ينتمى الإنسان إلى جنوب لبنان

نشر فى : الخميس 17 أكتوبر 2024 - 7:35 م | آخر تحديث : الخميس 17 أكتوبر 2024 - 7:35 م


تتعثر كلماتى، ولا أعرف من أين أبدأ، لم أدرك أننى سأعيش لأرى كل ما يحصل فى بلدى الغالى. أمشى فى شارع الحمرا، وأشعر بأنى غريبة فيه، أنظر الى كل شىء حولى كأنى أراه للمرة الأولى، وجوه الناس المصفّرة، المبانى المغبّرة ببقايا الصيف الحزين، الناس التى تسأل عن أسماء الفنادق، التائهين من أنفسهم لخوفهم من الموت المحتوم الذى يلاحقهم.
بعد منتصف الليل، يُطلق المتحدث باسم جيش الاحتلال الإسرائيلى أوامره بإخلاء المبانى فى الضاحية الجنوبية، فتهرع الناس من كل حدب وصوب، يجرّون وراءهم أذيال الألم والغضب والإحباط ومشاعر متناقضة، يمشون أو يركبون الباصات الممتلئة، يبحثون عن المدارس التى تستقبلهم وتحتضن بؤسهم، تقول لى مروى صديقتى: (هل بقى غرف فى الفندق، لو حتى واحدة، هل ننام فى الشارع؟) كيف سأقول لها إن الناس تنام فى مستودع الفندق.
أنا أحتاج إلى أن أبكى، ولا أقدر، هل جفّت دموعى على أطفال غزة، هل أصبح قلبى قاسيا ولا شىء حى فى مايا إلا الدموع، هى ماء ومن الماء خلق كل شىء حى؛ لقد مات قلبي، لكن كيف أنعيه؟ وكيف أقول إننى لم أعد أشعر؟
• • •
لن أعود إلى طفولتى المقهورة، التى قضيتها فى جنوب لبنان، تحت أصوات الغارات وقذائف المدفعية، لن أتكلّم كثيرا عن زوايا الملاجئ المظلمة التى كنت أنزوى فيها خوفا من المجهول الذى أعرفه، كان الكبار يتكلمون عن الحرب، وانا ابنة الثمانى سنوات لا أعرف حقيقة معنى الحرب.
كنت نائمة كملاك يطير بين الغيوم، وكمعظم الأطفال كان نومى خفيفا جدا، لكن فى تلك الليلة لم أستيقظ، وعندما شقّ النور خيوطه من نوافذنا المكسورة، عرفت أنّها كانت ليلة صعبة، فقد قصفت إسرائيل الحقول القريبة وتطايرت الشظايا.
فى الصباح ذهبنا إلى الحقل المجاور، وجدت حفرة كبيرة بين نباتات الحمص الأخضر التى كنّا ننتظر نضوجها حتى ترافق جلسات السهر والسمر، اقتربت جدتى من الحفرة وحملت معها الجزء السفلى من القذيفة المنفجرة وأخذتها معنا إلى البيت، هناك زرعت فيها وردة جميلة واستقرّت القذيفة على درج جدتى.
أتكلم مع أختى التى تُصّور لنا كل شىء، تصرخ عند كل غارة «الله أكبر»، ترتجف يدها وتستمر بالتصوير، (هل رأيتم كم هى قريبة؟). لا أعرف هل اعتادوا رؤية الموت، أم ملّوا من ألاعيبه السوداء، أراهم يستمرون بحياتهم الطبيعية، وكأنهم بمنأى عن هذا الشرّ كله.
• • •
كعادتى فى كل يوم، استيقظ فجرا أشرب قهوتى واستمتع بصمت الرحلة بين الليل والنهار، هذه اللحظات بالنسبة إلىّ مقدّسة، أستغلّ فيها بعض وقتى الذى سيمتلئ بطلبات الأطفال والعائلة.. ولكن يومها ما حصل كان مرعبا.
منذ بدء الحرب على غزة والجنوب اللبنانى، فى خريف العام 2023، وأنا لستُ بخير. أنا ابنة الجنوب، أعرفُهُ جيدا، وأعرف أنه يدفع ما لا يطيقه من أرواح وجراح وممتلكات ولكن تربيت أيضاً على فكرة أنّ كل شيء يهون فى سبيل فلسطين.
منذ بدء الحرب على غزة والجنوب اللبناني، فى خريف العام 2023، وأنا لستُ بخير. أنا ابنة الجنوب، أعرفُهُ جيدا، وأعرف أنه يدفع ما لا يطيقه من أرواح وجراح وممتلكات ولكن تربيت أيضاً على فكرة أنّ كل شىء يهون فى سبيل فلسطين.
فى بداية الحرب، جبِنتُ أن أذهب إلى الجنوب خوفا من أصوات الصواريخ وجدار الصوت ولكن الرسائل التى كانت تصلنى من أختى الثانية والتى تسكن قريبة من الحدود، وإصرارها على الصمود جعلنى أشعر بالذنب وألوم نفسي، هل حياتى أهم من حياتهم؟
تسأل سما ابنة أختى ذات الخمس سنوات، متى يا ماما يتوقف العدو عن قصفنا؟ تجيبها عندما يتوقف عن قصف غزة؟ ومتى سيتوقف عن قصف غزة؟ تقول أختى: لا نعرف يجب أن نتحمّل أكثر، تجيبها: لا أستطيع أن أتحمل أكثر، تسألها، هل أنت خائفة؟ لا لا لست خائفة لكن عندما يحصل الانفجار القوى (تقصد جدار الصوت) أرتجف وقدماى تسرحان يمينا وشمالا.
تلك ابنة أختى الجميلة كسماء أيلول، أبكرت فى عيش ما عشناه، بقسوة شديدة وعنف غير معهود.
• • •
بعد عدة أسابيع من إعلان «جبهة الإسناد» وانكفائى إلى بيتى البيروتى، اشتدّ بى الحنين، إلى بيتى الجنوبى، إلى جنتى، إلى شرفتى التى تطل على البحر والمدى المفتوح.
وفى رحلتى الأسبوعية إلى الجنوب أفكر بتلك النعمة التى صنعت التحرير فى مايو الألفين. فى ذلك اليوم، كنت فى بلدتى الأولى، بلدة أهلى، وهى إحدى بلدات شمال نهر الليطاني. كانت الساعة الخامسة فجرا، سمعتُ ضجيجا وتكبيرات، البعض دلف إلى السطح والبعض الآخر تجمّع أمام النوافذ، وأنا أراقب من الخلف، وإذ بقلعة الشقيف، أشهر قلاع الجنوب (احتلتها إسرائيل فى العام 1982 لتسيطر من خلالها على مناطق واسعة من الجنوب) وإذ بها تنفجر، على دفعات متتالية. تلك الأصوات والأضواء كانت تكسر سكون النائمين ليستفيقوا على يوم جديد هو يوم التحرير.
فى ذلك اليوم، جُنّ جنون الجنوبيين، لم يُصدقوا ماذا حصل وانطلقت الحشود فى السيارات والمركبات وسيرا على الأقدام، يكسرون بالحجارة البوابات والحواجز الحديدية ويقطعون بأياديهم الأسلاك الشائكة ويقتحمون البلدات المحتلة، واحدة تلو أخرى.
• • •
قبل نحو ثلاثة أسابيع تقريبا، كنت أضحك بشكل هستيرى خلال سهرة جميلة وطويلة قضيتها مع زوجى وأمى، فى الحقيقة لا أعرف السبب، كنت أبحث عن أى شىء يُضحكنى، حتى لو كان تافها جدًا، ضحكت حتى نمت متعبة، وبين الرابعة والخامسة فجرا كنت أجلس فى سريرى وأفكر كيف مرّ يومنا ولم يرعبنا الصهاينة بجدار الصوت، ولكن سكونى لم يطل، سمعت أصوات الصواريخ تنهمر كالمطر، كانت غارات قريبة جدا، وبسرعة نهض زوجى مسرعا إلى غرفة الأطفال التى تُطل على الوادى، ولم أستطع اللحاق به لعجز ركبتىّ عن الوقوف.
اجتمعنا فى غرفة الدرج، نغلق آذاننا عن الأصوات المرعبة، وبين سقوط الصاروخ وانفجاره كانت تمر بعض الثوانى، هذه الثوانى تُلخّص حياتنا كاملة، وكلّما ينفجر صاروخ، أنتظر الآخر، ولا أعرف أىّ واحد منها سيُحدّد مصيرنا وقدرنا. لم أخَف هذه المرة، فأنا عشتُ حرب 2006، بأدق تفاصيلها. انتظرنا حتى الصباح وهرعنا إلى بيروت، بعدما تركت جنتى وذاكرتى وذكرياتى فى أرض الجنوب.
بعد أسبوعين تقريباً نسيتُ ما عشته فى تلك الليلة وعدتُ من جديد إلى بيتى الجبلى، جارتى المُسنّة وجارى المُقعَد، نباتاتى والدجاجات والقطط الجميلة على مدخل بيتى ومشاجرات أطفالى فى الحديقة، وغروب الشمس وفنجان قهوتى، كُلُها تفاصيل تدفعنى للذهاب من جديد إلى الجنوب، ورسائل أسرتى وأقاربى وأولاد عمومتى وعماتى وأصدقائى يسخرون منى لجبني، ويقولون لى ستعتادين.
فى الحقيقة لم أعتد، وكنت لا أستوعب صراخ أولادى مع أولاد الجيران بعد كل خرق لجدار الصوت بينما يفرّ قلبى من مكانه مستغرقة برسم سيناريوهات المستقبل.
للمرة الثانية بعد أسبوع تقريبا، عُدنا إلى جوار الموت، الحنين إلى الجنوب، شعور غريب لا يمكن التعبير عنه بالكلمات، خوفا من فقده مرة أخرى وكأننا دائما بحاجة للاطمئنان عليه. اتفقت مع زوجى أن نغادر إلى بيروت قبل حلول المساء، ولكنّنا لم ننتبه إلى الظلام الذى حلّ بنا، انهمرت الصواريخ كالأمطار، لم نستطع عدّها، ابنتى الصغيرة تطلب منى أن أقرأ لها بضع آيات قرآنية علّها تهدأ وأنا لا أستطيع أن أُهدّئ نفسى.
اليوم أنا فى الحمرا برأس بيروت، أجلس على شرفة الفندق، وأنظر إلى أفواج الناس النازحة، لا أعرف من أين يأتون يحملون معهم ما قلّ وزنه، ظهورهم التى انحنت من هول ما عاشوه فى الأيام الأخيرة لم تقوَ على حمل المزيد، حملوا حياتهم على أكتافهم وساروا. لا أعرف كم من الأيام مرّت، أصلاً لم أعد أكترث للوقت، لم يعد هناك معنى لشىء، أحتاج إلى أن أبكى ولا أبكى.

مايا ياغى
موقع 180
النص الأصلى:
https://bitly.cx/UHifEE

 

التعليقات